بطرس دانيال يكتب: شعورك بالآخر إرضاء لله
يقول داود النبى فى المزمور: «لا تَخف إذا أصبح إنسانٌ ثَريًّا وإذا ما زادَ بيته جاهًا، لأنه لا يأخذُ شيئًا عند موتِه ولا يَنزلُ مجدُه معه» (٤٨: ١٧-١٨). إنها كلمات تُظهر لنا عدم التعلّق بالمال، لأن هناك أشخاصاُ يتوكلون على ما لديهم من مالٍ ومقتنيات وثراء، دون التفكير فى الله الذى يهبهم كل شيء، حتى أنهم صاروا عبيدًا لما يملكون ويمتنعون عن مساعدة الفقير والمحتاج. وهناك أشخاص يلهثون وراء السعادة المزيفة الكامنة فى بريق الذهب والمال طالبين المزيد والمزيد. هؤلاء تجاهلوا أن الغنى والجاه يورثان الغمّ والهّم للذين يصيرون عبيدًا لهما، ويجعلون كل همّهم وشاغلهم الأول فى البحث عمّا يضاعف ثراءهم والحصول عليه بشتّى الطرق دون شبع أو قناعة. يُحكى أن رجلًا ثريًا جلس ذات مرة مع ذاته متسائلًا: «ماذا أنتفع بكل هذا الغنى وأنا أشعر بفراغٍ مميت فى داخلى؟ ما الذى ينقصنى؟ ماذا تفعل نفسى لتستريح وتحيا فى سلامٍ؟» فذهب إلى حكيم المدينة ليشكو له مشاعره الدفينة طالبًا منه المشورة. فأخذه الحكيم نحو النافذة ليتطلع كلاهما من الزجاج تجاه السماء، ثم سأله الحكيم: «ماذا ترى؟» أجابه الغَني: «أرى السماء الزرقاء تشعّ بجمالها الخلاّب»، فقال له مرةً أخرى: «انظر إلى الطريق، ماذا تشاهد؟» أجابه الغَني: «أرى العديد من الناس يسيرون هنا وهناك». ثم قدّم الحكيم له مرآةً ثمينة، وسأله: «ماذا ترى الآن؟» أجابه: «أرى وجهى». عندئذٍ شرح له قائلًا: «مِن خلال الزجاج الشفاف رخيص الثمن ترى السماء بجمالها الخلاّب وتشاهد الناس أخوتك؛ بينما من خلال المرآة الثمينة فلا ترى سوى وجهك، لأن لمعان وبريق الغنى والذهب يحجبان عنك رؤية السماء ببهائها والتطلع إلى وجوه الناس، لتنشغل بوجهك فقط. ومِن ثمَّ تنحصر حياتك كلها فى سجن الأنا المميت. هذه هى نتيجة محبة الغِنَى والعبودية له!». مما لا شك فيه أن البغض والكراهية والحروب فى العالم تنتج من حُب التملك والأنانية، وينبع عنهما عدم الأمانة وظلم الأشخاص والتمييز فى المعاملة. لأن الإنسان لا يشبع أبدًا، بل يطلب المزيد والمزيد من الأشياء. ماذا نجنى من حُب المال والغنى دون التفكير فى مساعدة المحتاجين والمحرومين؟ وما هى السعادة التى نحصل عليها عندما نخالف ضميرنا فى سبيل الحصول عليهما؟ لا ننكر أن هناك الكثير من الأغنياء الذين يستخدمون المال والثروات فى أعمال الخير ومساعدة الفقراء والأيتام والمرضى، كما أنهم يريدون الحصول على المال لتلبية احتياجاتهم ومعيشتهم دون أن يصيروا عبيدًا لما يمتلكون، كل هذا بحاجةٍ إلى إرادة صلبة وقناعة داخلية. لذلك يجب على كل واحدٍ منّا ألا يلهث وراء سعادة مزيفة تأتيه من بريق الذهب والمال، والذى يورثنا الهمّ والغمّ لأننا صرنا عبيدًا للماديات. كما يجب علينا ألا ننسى أن بريق الغنى يحجب عنّا رؤية جمال الخليقة والتطلّع إلى وجوه البشر، حتى تنحصر حياتنا فى سجن الأنا المميت، ومِنْ ثَمّ يدفعنا إلى الوقوع فى رذيلة البخل وعدم الاهتمام بالآخرين، وعدم الشعور بمعاناتهم وحرمانهم من أبسط الأشياء لسد جوعهم وعلاجهم. ولا نستطيع أن نتخيّل ما تجلبه هذه الرذيلة على صاحبها من تعاسة ومرارة، كما أنها تحزن قلب الله واهب جميع الخيرات، لأن الإنسان الأنانى والطمّاع يحرم الذين هم بحاجةٍ إلى قوتهم اليومى، ولا يوفر لهم أبسط الرعاية الإنسانية. لذلك يجب علينا ألا نبخل أبدًا على المحتاجين؛ بل نقدّم لهم ما يحتاجون إليه سواء على الصعيد المادى أو المعنوى، ونستطيع أن نحرم أنفسنا من أشياءٍ بسيطة لا تكلّفنا على الإطلاق؛ ولكنها تعوّضهم كثيرًا. فالعطف على الآخرين، هو سبيل إلى اكتساب رضا الله واحترام الناس وراحة البال، هذا فضلًا عن البركات التى يفيضها الله علينا، لأن فعل الرحمة يحمل معه دائمًا بركته، خاصةً الشعور بالرضا والسعادة. كما يجب علينا أن ندرك جيدًا بأن الحسنة أو الصدقة التى نقدّمها للمحتاج، ليست سخاء نفسٍ ومنّة؛ بل هى واجبٌ مقدّس، ودَين فى أعناقنا نوفيه لصاحبه، مقدّمين له الشكر مع الاعتذار عن تأخرنا ومماطلتنا نحوه. والصدقة الحقّة هى محبة المحتاجين واحترامهم، وتضحية ذاتنا من أجلهم، وإدخال المسرّة فى قلوبهم. ومن المؤكد أنه ليست هناك فضيلة تمسُّ قلب الله فيهتز فرحًا وغبطة، مثل الرحمة التى نمارسها مع البائس والمحتاج، لأنها من صفات الله مع جميع خلائقه. ونختم بالقول المأثور: «ليس الفقير مَنْ يملك قليلًا؛ لكن الفقير هو مَنْ يحتاج كثيرًا».