"بعد أن زارها الرئيس".. تعرف على قصر هندي بأرض مصر
زار الرئيس عبد الفتاح السيسي رئيس الجمهورية، دولة الهند، وذلك في إطار سعيه للتواصل الخارجي مع كل دول العالم، ونجد أن للآثار دور كبير وهام في إلقاء الضوء على التواصل الحضاري والتاريخي بين مصر والهند، واستلهام جماليات العمارة والفنون الهندية فى القصور الأثرية في مصر ومنها قصر البارون إمبان في حي مصر الجديدة.
قالت الدكتورة بسمة سليم مدير عام قصر البارون، إن تصميمات القصر مستوحاه من الفنون الهندية وعمارتها، وبدأت القصة عام 1900 في المعرض الدولي بباريس، والذي حضره رجل الصناعة البلجيكي إدوارد إمبان (1852- 1929).
وأشارت سليم إلى أنه في هذا المعرض التقى البارون بالمهندس المعماري الفرنسي إلكسندر مارسيل (1860- 1928)، والذي كان بدوره مشاركًا في هذا المعرض بنماذج لأبراج مستوحاه من الحضارات الشرقية مثل البرج الكمبودي والبرج الياباني في أحد أجنحة المعرض وهو جناح "حول العالم" ومن هنا ذاع صيت مارسيل كمستشرق واستعان به البارون إمبان فى وضع بعض التصميمات الهندسية لمبانى ضاحية هليوبوليس في وقت لاحق.
وتابعت بسمة سليم، أنه في عام 1904، حضرادوارد امبان إلى مصر، حاملًا معه حلم كبير يطمح في تحقيقه على أرض المحروسة، وبمشاركة صديقه بوغوص نوبار باشا (1951- 1930) واستطاع الحصول على امتياز من الحكومة المصرية عام 1905، بأرض تبلغ مساحتها 5952 فدان لإنشاء ضاحية هليوبوليس شمال شرق القاهرة، وفي عام 1907 قرر ادوارد امبان – الذي منحه ملك البلجيك ليوبولد الثاني لقب البارون في نفس العام أن ينشىء قصرًا خاصًا به، ليأتي هنا دور الكسندر مارسيل الذي استطاع إقناع البارون بأن يشيد له القصرعلى طراز المعابد الهندوسية ووافق البارون على ذلك، خاصة أنه كان يشجع على إضافة كل ماهو غريب وجديد إلى ضاحيته الجديدة كجزء من سياسته التسويقية للمدينة الوليدة آنذاك.
ومن ناحيته قال الدكتور عبد الرحيم ريحان عضو المجلس الأعلى للثقافة لجنة التاريخ والآثار الضوء إن تصميم الهيكل الخارجي لقصر البارون إمبان جاء على طراز العمارة الهندية والخميرية بمعابد شمال الهند ومعبد انغكور وات بكمبوديا، وفي تلك المعابد ترتبط فنون العمارة والنحت بالمعتقدات الدينية المستلهمة من قصص بوذا وسيرته، ومن الأساطير الهندوكية الرامزة إلى الصراع بين الخير والشر، وتبدو فيها التماثيل نافرة على أسطح الواجهات وقد تعلقت شخوصها ضمن حشوات زخرفية كبيرة تكسو أسطحها الخارجية بالكامل، أمّا الشخوص فكانت للآلهة والأرباب والحيوانات الخرافية وحراس البوابات والتي تميزت بتوازن الكتلة ورشاقة الحركة وإنسجام الخطوط، إلًا أن الطراز العام للقصر اتسم بكونه انتقائيًا أو تلقيطيًا والذى يعنى المتعدد التأثيرات حيث يظهر جليًا إختلاف التأثيرات الفنية والمعمارية في تصميم القصر كالتأثير الإسلامي والأوروبى بالإضافة إلى التأثيرالهندي.
وأشار إلى أن البوابة الرئيسية للقصر (تورانا) المطلة على شارع العروبة تتميز بالسمات الهندية وتتكون من دعائم مبنية مزخرفة بأشكال حيوانية كالطاووس والفيل يقطعها عوارض بنائية مزخرفة بزخارف نباتية، وفي أطرافها عجلة الحياة البوذية، وهذه البوابة استوحى الكسندر مارسيل تصميمها من بوابة المعبد البوذي ستوبا سانشي بالهند (تورانا)، وبرج القصر الذى يقع بالزاوية الغربية شيد على غرار أبراج المعابد الهندية بشمال الهند والتي تتبع طراز (ناجارا) والتي تتميز أبراجها (الشيخارا) بقمة مخروطية مثل معبد خاجوراهو جاين.
وتتوسط كتلة المدخل واجهة القصر الرئيسية، وهي ذات قبو نصف برميلي يؤطره عقد مدبب، استوحى تصميمه من بوابات كهوف الرهبان البوذيين مثل كهوف أجانتا الواقعة بمنطقة حيدر اباد بالهند، وتتنوع التماثيل الآدمية مابين الآلهة والأرباب أو أنصاف الآلهة أو حراس البوابات والراقصات وغيرهم من الشخوص وأهم تلك التماثيل تمثال بوذا مؤسس الديانة البوذية، ولم يأتِ اختيار الموقع من فراغ؛ بل إن وجود بوذا أعلى المدخل الرئيسي حسب المعتقدات البوذية يعد طاردًا للطاقةِ السلبية ومنعها من الدخول ويظهر بوذا وهو جالسًا فوق زهرة اللوتس التي ترمز إلى النقاء في وضعية التأمل مع مجموعة من الفتيات يرتدين ملابس بسيطة يرقصن حوله.
وتقع تماثيل شيفا موزعة على الأسوار الداخلية للقصر، يظهر بها الإله شيفا محاطًا بأفاعي الكوبرا متخذها سلاحًا داخل إطار بيضاوي من ألسنة اللهب التي تمثل النار الكونية التي تستخدم لتدميرالكون كجزء من دورة الدمار والخلق.
وتوجد لوحتان متتطابقتان منحوتتان من الجص يقعان بالصالة الرئيسية للقصر أعلى البابان المؤديان إلى الحجرات الجانبة تمثلان الإله كريشنا عازف الناي، ويعد كريشنا من بين كل الآلهة الهندية الأكثر تبجيلًا وشعبية وهو التجسيد الثامن للإله فيشنو وهو إله الحب ويعبد بشكل واسع من قبل العديد من الطوائف.
تصور اللوحة كريشنا واقفًا وسط أبقاره يعزف الناي وهو التمثيل الأكثر شيوعًا له، حيث اشتهر راعي البقر كريشنا بأنه الإله العاشق، وكانت نغمات عزفه على الفلوت تحث زوجات وبنات رعاة البقر على الخروج من منازلهم للرقص معه في الغابات، فلم يكن جذابًا لهم فحسب، بل لجميع الكائنات الحية أيضًا الذين يلتفون حوله ويرقصون على نغمات موسيقاه الإلهية.
ويتابع الدكتور ريحان بأن الزخارف الحيوانية تجسّدت بشكل جمالى فى القصر ومنها الفيل وكان في الهند القديمة من ممتلكات العائلة المالكة فقط، وبالتالي فإنها لا تزال تحمل هذه السمة الملكية حتى الآن وتم ترويض الفيلة وتدجينها أولًا في الهند قبل مناطق أخرى، وانتشر استخدامها في الأنشطة اليومية المختلفة إلى أجزاء أخرى من آسيا، كما تم استخدامها في الحروب لنقل المعدات الثقيلة والأسلحة بسبب قوتها ومرونتها، كما قام المحاربين باستخدامها في المعارك الشرسة.
وكان الفيل يستخدم بكثرة لبناء المباني الكبيرة مثل المعابد والقصور، حيث كان من المستحيل صنع هذه المعابد دون مساعدة الأفيال (نظرًا لعدم وجود الآلات الحديثة في ذلك الوقت لذلك انتشرت تماثيل الأفيال في كل معبد وقصر تقريبًا في الهند، ويرمز الفيل في الثقافة الهندوسية إلى الحكمة والذكاء والصبر والامتنان والعرفان بالجميل بالإضافة إلى القوة الخارقة، وأن الشعب الهندي لا يعبد الأفيال لكنهم يحاكون الصفات الإيجابية في هذا المخلوق مثل الطاعة والمثابرة وآذان كبيرة تستمع جيدًا.
وأفعى الكوبرا "ناجا" توجد موزعة على الأسوار الخارجية للقصر بإعتبارها آلهة حامية للأماكن المقدسة، وتكون إمّا منفردة أو مجتمعة في هيئة مروحة أو لهب، وهي مستوحاه من منحوتات أفاعي الناجا بمعبد انكور وات بكمبوديا، وتعبد الكوبرا في جميع أنحاء الهند حيث يرى الهندوس الكوبرا كرمز إيجابي، وفقًا للأساطير، قامت الناجا بحماية الملوك والأبطال القبليين والآلهة الهندوسية ويكرمهم القرويون لقدرتهم على جلب المطر ويخشون من قدرتهم على إحداث الكوارث ويعتبرونهم تجسيدًا لكبار القادة.
وبهذا فإن قصر البارون إمبان يعزف مقطوعة هندية أصيلة امتدت ألحانها من شواطئ نهر الجانج حتى شواطئ نهر النيل في تناغم ساحر، عزفتها أنامل مهندس شاب طموح عشق عمارة الشرق هو إلكسندر مارسيل.