منال لاشين تجيب على السؤال الشائك: لماذا رضخ إسلاميو تركيا واعتذروا لبائعات الهوى؟
كانت رحلتى الأولى لتركيا فى أواخر التسعينيات، إلى عاصمتها الثقافية والسياحية إسطنبول. مقر الخلافة الإسلامية وعز تركيا الكبرى، ولكنها هذه المدينة التى تغرس جذورها فى التاريخ كانت متطلعة ومنفتحة على المستقبل.. رغم المساجد والمعابد والآثار التى تعود لآلاف السنوات كان الجو مشبعا بثمة رياح شابة..هل وجود ملايين السياح هو من أعطى المدينة هذا المناخ الشاب المتفائل أم أن القيادة الشابة التى تقود المدينة هى السبب؟.
كان أول حزب إسلامى فى تركيا قد نجح فى الفوز بأول انتخابات محلية فى تاريخيه بإسطنبول وبدأ رجب طيب أردوغان على أعتاب قيادة المدينة ومسح آثار الفقر والإهمال عن المدينة التاريخية. فى ذلك الوقت كان الجميع ينظرون بنظرة شك لإخوان تركيا، وكانت الأعين مسلطة على تجربة أردوغان بوصفها بروفة لما قد يحدث فى المستقبل. حاولت أن أنحى السياسة (الواكلة عقلى) مثلما يقول كل أسرتى وأصدقائى واستمتع بمعالم المدينة. واعترف ان وجود شارع للدعارة جذبنى كصحفية شابة لم تر هذا المجتمع إلا فى أفلام الأبيض والأسود وخمسة باب. زرت الشارع صباحا كما نصحنى بعض الأصدقاء.
فى الصباح بدأ الشارع هادئا جدا وكأنه يغط فى نوم عميق، المحلات على جانبى الشارع مغلقة وعلى الأرصفة بائعين يعرضون بضاعتهم المتنوعة من فضيات وأثاث قديم وكتب ومجلات قديمة أحببت تجانس الألوان ورائحة التاريخ فى هذه المنتجات التى تمثل باب رزق لبائعين مستعدين للفصال فى هدوء يؤكد صفة الشارع الصباحية لممر خجول
ولكن فى المساء يخلع هذا الممر أو الشارع رداء الخجل ويتلألأ بالأضواء والموسيقى ووجهات المحلات الحمراء. زحام شديد يختلط فيه السياح من كل دول العالم بالمافيا التركية التى تدير الشارع وتسيطر عليه، وأمثالى من الفضوليين الذين جاءوا للفرجة.
كنت أشعر بالإثارة وأنا أعبر مع صديق مصرى الشارع كطفلة فى زيارتها الأولى للملاهى، ولكن سرعان ما شعرت بغثيان وتوقفت ساقى عن الحركة تماما حتى اضطر صديقى إلى سحبى وهو يقول: (الوقوف كده خطر).. لم أتوقع رؤية فتيات فى مثل عمرى أو أقل يجلسن فى (الفتارين) مثل أى حذاء أو فستان كجذب الزبائن. المشهد كان قاسيا جدا، وعرض على صديقى ألا نكمل الرحلة، فرفضت وأكملت السير وسط أصوات المساومة وغضب بعض الزبائن وأعين الحرس أو المافيا التى ترصد أى تهديد.
لم يكن من الممكن التحدث مع أى فتاة خلال ساعات العمل حيث لا يسمح لهن إلا باستقبال الزبائن فقط، ولكن صديقى الذى يتحدث التركية وله علاقات متشعبة استطاع الحصول على موعد مع فتاتين فى الصباح.
فى اليوم التالى لم أتعرف على أى منهما كانا يرتديان بنطلون جينز وتى شيرت، ويجمعا شعرهما فى كعكة ووجههما خاليا من الماكياج.إحداهما كانت طالبة جامعية تجمع الأموال اللازمة للهجرة لأوروبا، والثانية كانت تحضر للدكتوراه وتستخدم أموال العمل فى الدعارة للإنفاق على رسالتها. سألتها هل يمكن أن تعمل بالجامعة بعد حصولها على الدكتوراه، فردت على ببساطة: إنها لا تسعى للعمل فى الجامعة ولكنها شغوفة بالعلم.. وأنها تخطط أن تفتح مدرسة للتأمل فيما بعد.
وطوال زيارتى للمدينة التى تعددت لم أشعر بالرفض لشارع الدعارة. وتصورت أن السبب أن أصدقائى لا ينتمون إلى الحزب الإسلامى الوليد، ولكن حدثت مفاجأة لم أتوقعها ولم أعرف أحدد موقفى منها رغم مرور السنوات وتغير المواقف السياسية.ففى نشوة انتصارات الحزب الإسلامى فى إسطنبول وفى عز الانتخابات أصدر بعض قيادات الحزب بيانا فيه تعهدوا فيه بإغلاق شارع الدعارة ومنع المهنة تماما.وفجأة انقلب الكثيرون على الحزب وقادته، ورفضوا إغلاق الشارع الذى يعد مصدرا مهما من مصادر السياحة، واعتبروا أن هذا البيان موجه لقطع أرزاقهم وخراب المدينة. واضطر الحزب إلى التنكر لبيان بل أصدر بيانا يؤكد فيه احترامه لكل العاملين فى القطاع وأن البيان مدسوس عليه. فى ذلك الوقت كانت السياحة أو بالأحرى مليارات السياحة تكاد تكون المورد الوحيد لإنقاذ المدينة وأهلها من عنق الزجاجة، وكل مشروعات أردوغان من تعليم وخلافه كانت تعتمد على موارد السياحة. ربما يكون قرارا عاقلا خاصة أنه حتى الأوروبين كانوا يجذبهم الشارع حتى تأثير حكايات الحريم التركى. لم تكن الدعارة نشاطًا مغلقًا على ذاته أو أهله، بل كانت شبكة متكاملة تربط المدينة من جنوبها إلى شمالها ومن شرقها إلى غربها. المطاعم والمحلات التى تعرض الملابس والفنادق الكبرى والصغرى على حد سواء تستفيد من جاذبية الدعارة التركية للسياح. بائعو البطاطا بالقشطة فى الشوارع والمقاهى الصغيرة والأسواق التقليدية التى يغلب عليها الإسلاميون، وتشعرك بأنك فى الحسين أو الصاغة أو الأزهر.. تعتمد أيضا على جاذبية شارع الدعارة على المحك مليارات الدولارات ٦ مليارات دولار أرباحا سنوية، ولذلك حتى الآن لا تزال الدعارة مباحة فى تركيا ببعض القيود. ولكن الأمر ليس محيرا فقط من الزاوية الاقتصادية فللدعارة أوجه أخرى غير الدين والاقتصاد..أنها تجارة فى البشر واستغلال للنساء ترفضه الغالبية العظمى من البشر.