بالتفصيل.. أحكام العمرة والحج
ننشر خلال السطور المقبلة سلسلة أحكام العمرة والحج، والتي تتضمن بالتفصيل التعريف بمفهوم العمرة وأحكامها، وأنواع الحج وأحكامه الشرعية.
من أسرار الإحرام: التجرُّد والتَّرك
تَجَرُّدٌ يؤدِّي بنا إلى تَذَكُّرِ البِداياتِ، وتَركٌ يُؤَدِّي بنا إلى تَذَكُّرِ النِّهاياتِ وبداياتُ طَرِيقِكَ اللهُ، يعني أنَّنا سَنَبدأ معَ اللهِ، ونهاياتُ طريقِ اللهِ أن يَفتَحَ علينا، ويُنَوِّرَ قُلُوبَنا، ويُعِينَنا على ذِكرِه وشُكرِه وحُسنِ عِبادتِه، ويَتَقَبَّلَنا عندَه، ويجعلَنا مِمَّن يَعبُدُه كأنَّه يَراه، إذن ففي الحجِّ والعمرة وأنت تَرتَدِي ملابس الإحرامَ تَرتَدِيها بهذه النِّيّة.
الخروج من العادة
كذلك أَخرَجَكَ مِن إلفِكَ: فأخرجك من ثيابِك. لقد نظرَ بعضُهم إلى أنَّ الخروجَ مِنَ العادةِ عِبادة؛ أي أنَّك تَرتَدِي الملابسَ المُختَلِفة وأُمِرتَ بهذا اللباسِ {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} فأخرَجَكَ في الحجِّ والعمرة مِن هذه العادةِ إلى لِباسٍ لم تألَفه، هذا يُذَكِّرُك ببِداية مَجِيئِكَ إلى الدُّنيا؛ فإنَّك تَجِيءُ إليها مِن غَيرِ ملابسَ، إنَّما اللهُ سبحانه وتعالى هو الذي جعلَ هناك عورةً يجبُ أن تُستَرَ وجَعَلَها في الرجالِ بينَ السُرّة إلى الرُّكبة، وجعلَها في النساءِ كُلَّ البَدَنِ إلا الوجهَ والكَفَّينِ، فهذه إشارةٌ للبدايةِ.
إشارةٌ إلى النهايةِ
لأنَّه حين الدَّفنِ لا نَدفِنُ المَيِّتَ عُريانًا معَ أنَّه كان مِنَ المُمكِنِ أن يُقَدِّرَ اللهُ خُرُوجَنا كدُخُولِنا، لكنَّه سبحانه وتعالى كَرَّمَنا وجعلَ لنا ثيابًا، لكنَّ هذه الثيابَ تُشبِه الإحرام، فالإحرامُ أثناءَ تَجَرُّدِك مِن ثِيابِكَ يُذَكِّرُك بالميلادِ ويُذَكِّرُك بأنَّ هذا الحَجَّ سيجعَلُك كيومَِ ولدتك أمُّك، ثمَّ يُذَكِّرُك بالنهايةِ بأنَّك ستعودُ إلى القبرِ مِن غَيرِ ملابسَ فيها جيوب، ويقولون عندنا في الأمثالِ الشَّعبِيّة (الكفن ليس له جيوب)، فأنت تجري في هذه الدنيا كجري الوحوش ولن تَحصُل في النهاية إلا على الرزق الذي قَدَّرَه اللهُ لك، ولذلك قال ﷺ: "أيها الناسُ، اتقوا اللهَ وأَجمِلُوا في الطَّلَبِ؛ فإنَّ نَفسًا لن تَمُوتَ حتى تَستَوفِيَ رِزقَها وإن أَبطَأَ عنها، فاتَّقُوا اللهَ وأَجمِلُوا في الطَّلَبِ؛ خُذُوا ما حَلَّ ودَعُوا ما حَرُم"، أي بألا تَتَكالَب على الدنيا، فإن الميِّتَ لا يأخذُ معه في قَبرِه إلا عملَه، فانظروا إلى مَن يَدَّخِرُ لمَن بعدَه فكأنَّما باعَ دِينَه -إذا كان قد أَتى مِن غيرِ حِلِّه- بدُنيا غيرِه وخرجَ مِنَ الدنيا بلا شيءٍ، فلن يُوضَعَ معه في قبرِه مالٌ ولا جاهٌ. فلا تُدخِل على نفسِك إلا الحلالَ، ولو دخلَ شيءٌ حرامٌ استِكثارًا وبَطَرًا فإنَّك سوف تَترُكُه بالمَوتِ الذي لا تَعلَمُ متى سَيأتِيك.
لبس البياض
ويُسَنُّ البَياضُ، يعني أنك لو ارتَدَيتَ غيرَه مِنَ الألوانِ فإنَّه يُجزِئُ؛ إذِ المُهِمُّ أن تَتَخَلَّصَ مِن كُلِّ مَخِيطٍ ومُحِيطٍ، لكن مِنَ السُّنّة أن تَرتَدِيَ الأبيَضَ، وهذا يُذَكِّرُنا بأمورٍ: منها النَّقاءُ؛ لأنَّ البَياضَ يُضرَبُ مثلا للنَّقاءِ، والنَّقاءُ يُذكِّرُكَ بالتَّوبة وأنَّ الحجَّ ستُغفَرُ لكَ فيه الذُّنُوبُ، وتَبدأ فيه نَقِيًّا معَ اللهِ؛ ومنها النُّورُ الأبيَضُ الذي هو ضدُّ الأسوَدِ والظلامِ، والأبيضُ الذي هو عنوانُ النُّورِ ما مَعناه، مَعناه أنَّك على بَصِيرة؛ فإنَّكَ حينما تَحُجُّ فإنَّ اللهَ سبحانه وتعالى يَِجعَلُكَ على بَصِيرة ويُذَكِّرُك بالثَّوابِ؛ لأنَّ اللهَ سبحانه وتعالى يَجعَلُ وَجهَكَ أبيَضَ يومَ القيامةِ، فهذا يُذَكِّرُك بأنَّك تسيرُ مِنَ البداياتِ إلى النهاياتِ، بدايةِ الدنيا وبدايةِ طريقِ اللهِ وبدايةِ الكَونِ ميلادًا ووفاةً وهكذا.
من أسرارُ الطواف:
فيه حَرَكة تُذَكِّرُك بعبادةِ الملائكةِ وهي تَطُوفُ بالبَيتِ المَعمُورِ، وأنَّك تَتَشَبَّه بعبادِ اللهِ الصالحين؛ لأنَّ الملائكةَ مِن عبادِ اللهِ الصالحين، وأنَّ اللهَ مَنَّ عليك فلم يَحرِمك شيئًا عَلَّمَه لمَلائكتِه، ففَتَحَ لك كُلَّ طريقٍ.
جعلَ ربُّنا سبحانه وتعالى كلَّ شيءٍ يُسبِّحُ في مَجالِه، فجَعَلَ الكَواكِبَ تَطُوفُ حولَ الشَّمسِ، وجَعَلَ الشَّمسَ تَطُوفُ حولَ (فيجا)، وجَعَلَ المَجَرّة بحالِها تَطُوفُ وتَتَحَرَّكُ، وهكذا؛ فأنتَ تَطُوفُ كما طافت الكائناتُ وهي تُسبِّحُ ربَّها، وعلى ذلك فأنت تسيرُ في حركةِ الكَونِ، ولا تسيرُ ضِدَّه؛ ولأنَّ الكعبةَ في شمالِ الأرضِ وليس في جنوبِها كما أوضَحنا مِن قبل، فتَجِدُ نَفسَك تطوفُ كطوافِ حركةِ الماءِ، فالماءُ يَدُورُ بهذه الكَيفِيّة في النِّصفِ الشَّمالِيِّ، فإذ بكَ تفعَل مِثلَما تفعلُ الكائناتُ في كلِّ شيءٍ؛ الكائناتُ الكبيرةُ والكائناتُ الصغيرةُ.
إذن أنت مع الكونِ، وأنت مع عبادِ اللهِ الصالحين، وهكذا يُذَكِّرُكَ الطَّوافُ بالبَيتِ بالحَرَكة، و(الحركة بركة) كما يقول الناس عندنا؛ فهل تَسكُنُ أم تَتَحَرَّكُ في عبادتِك لله؟ لا، بل تَتَحَرَّكُ، هو الذي أمَرَكَ بالحَرَكة في الصلاةِ والزكاةِ والصيامِ والحجِّ، وهكذا الحجُّ والعمرة يُكَبِّرانُ لك الأشياءَ، ولذلك تَتَّضِحُ لك فيه الحركة وأنت تطوف، والطوافُ ركنٌ مِن أركانِ الحجِّ والعمرة، أظهَرَ لك ما كان خَفِيًّا، فحركتُك في الصلاة وأنت تَقِفُ في مكانِك، وحركتُك في الصيامِ يُمكِنُ أن تكونَ بعَينَيكَ، تَتَرَقَّبُ الفَجرَ مثلًا، وبقلبِك، فتُحَرِّكُ قلبَك في النيّة؛ لأنَّه لا بُدَّ مِنَ النِّيّة قبلَ الفَجرِ؛ لكن كَبُرَت جِدًّا في الحجِّ ووَضُحَت، ما كان خفيًّا مَستُورًا أصبحَ ظاهِرًا بيِّنًا، فالحركةُ في الطوافِ فيها أسرارٌ ظاهرةٌ وباطِنة، مِنَ الأسرارِ الظّاهِرة: استجابةُ الدُّعاءِ؛ لأنَّ هذا المَكانَ مَحَلُّ نَظَرِ اللهِ، ومَحَلُّ مُضاعَفة الأعمالِ في الثَّوابِ، فالمُصَلِّي والطّائِفُ والذّاكِرُ والدّاعِي والقارِئُ له مائةُ ألفٍ مِنَ الثَّوابِ خاصّة في الصَّلاةِ.
من أسرار الوقوف بعرفة
والوقوفُ بعَرَفة يَنقُلُك إلى بداية الخَلقِ؛ فإنَّ هذا المكانَ هو الذي عَرَفَ فيه آدَمُ حَوّاءَ عندما نَزَلَ إلى الأرضِ، ولذلكَ سُمِّيَ بعرفةَ، وهنا بدأت الحياةُ على هذا الكَوكَبِ، وبدايةُ كُلِّ شيءٍ لا بُدَّ أن نَبدأ فيها بالله؛ ولذلك يقولُ رسولُ اللهِ ﷺ: "كُلُّ أَمرٍ ذي بالٍ لا يُبدَأُ فيه بـ[بسمِ اللهِ] فهو أَقطَعُ"، أو: "أَبتَرُ" فعن أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ: "كل كلام أو أمر ذي بال لا يفتح بذكر الله عز وجل فهو أبتر أو قال اقطع"، أو "أَجذَمُ" كما جاءَ في بعضِ الرِّواياتِ، فعن أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ: "كل كلام لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم"، فمعنى ذلك أنَّ اللهَ تعالى يُعَلِّمُنا أن نَبدأ بـ[باسمِ اللهِ]، ولذلك نقول: [بسم الله] في بدايةِ الأكلِ والشُّربِ، وفي الجُلُوسِ، وعندَ الانصِرافِ، ونذكرُ اسمَ اللهِ عندَ اللقاءِ [السلام عليكم]، وعند الانتِهاءِ مِنَ الصلاةِ، وعندَ البدءِ فيها نَبدأ بـ [الله أكبر] ونُنهِي بالسَّلامِ.. وهكذا، فلا بُدَّ أن تَبدأ حياتَك باسمِ اللهِ؛ يعني: أن يَتَعَلَّقَ قَلبُك باللهِ. الوقوفُ بعرفةَ يقولُ لنا ويُعَلِّمُنا: أنَّ بدايةَ هذه الحياةِ -إذا أرَدتَ أن تَكُونَ مُستَقِيمًا- يَجِبُ أن تَكُونَ مِن هنا.