د. أحمد يونس يكتب : الإجرام من شدة السمع والطاعة أصبح فى الجينات
داخل القفص كان المشهد الفكاهى، لولا أنه أبعد ما يكون عن خفة الدم، الكل من الذين يتميزون بأقصى درجات التلاحة والتناحة والتلامة والرخامة، ولا أنسى التباتة والغتاتة، علامة رابعة الماسونية التى أشاروا بها، لا تختلف إطلاقاً عن: هايل هتلر، التى أداها النازيون فى محاكمات نورنبرج، «أنا الرئيس الشرعى» قالها العياط من داخل القفص 15 مرة خلال عشر دقائق، الراحل محمد عوض كان أكثر صدقاً: عندما أخذ يصرخ، أنا عاطف الأشمونى، مؤلف الجنة البائسة، اقترح على النيابة أن تضيف إلى التهم الموجهة ضده انتحال شخصية الرئيس، كان يتصرف أثناء نقله بالسيارة إلى قاعة المحكمة باعتبار أن هذه الحراسة المشددة التى تصاحبه ليست سوى التشريفة فى موكبه الرئاسى الفخم، وقد سألنى يوماً واحد من أعز الاصدقاء: مرسى، ما الذى يفعله فى سفرياته الخارجية التى لا تنتهي؟ قلت: لا شيء، غاية ما فى الأمر أن طائرة الرئاسة، بكل ما تشتمل عليه من مظاهر الأبهة، خيشت فى نافوخ سيادته.
لو ارتدى أحد المواطنين الزى الرسمى لرجال الشرطة، أياً ما كانت الدوافع أو الأسباب، فإنه يصبح- بالضرورة- خارجاً على القانون، إلا فى حالة واحدة: إذا كان يمثل على خشبة المسرح أو من خلال السينما، أما أن يحدث هذا فى الواقع، فلا يوجد من لا يرى فى الأمر جريمة تستلزم العقاب، فلماذا يستثنى مرسى من القاعدة، خاصة أنه ينتحل شخصية رأس الدولة؟ لكن الأخطر هو عندما يحدث ما شاهدناه صباح 4 فبراير، انتحل البلطجية المأجورون زى الإخوان الذين أخذوا فى الانقراض، لا ليمثلوا على خشبة المسرح أو من خلال السينما، بل ليقذفوا الطوب وزجاجات المولوتوف حتى على عربات التصوير التليفزيونى، مع تحطيم الكاميرات، بل إن السلوك الهمجى امتد إلى الأطفال أو الجدات اللاتى يتفرجن من شرفات المنازل، هنا- بالتحديد- تكمن الجريمة المتواصلة التى يرتكبها الإخوان، العلم يثبت أن ممارسة نفس الوظائف باستمرار- على مدى سنوات طويلة- يجعلها تغدو من الصفات الطبيعية داخل الكائن الحى، إلى درجة أن الإجرام الوحشى من شدة السمع والطاعة يصبح مع مرور الزمن فى الجينات.
كلنا نعلم مدى العلاقة القائمة بين عصابات الإرهاب والبلطجية، مئات الملايين انفقتها الجماعة على هؤلاء، ليعتدوا على القوى الوطنية أو أصحاب الرأى، وعلى المؤرخين أن يذكروا لنا متي- بالضبط- تمت هذه المعاهدة غير المكتوبة بين البلطجية الإخوان والبلطجية حاف؟ متى بالضبط؟ فى عهد مصطفى مشهور أو مأمون الهضيبى أو مهدى عاكف أو محمد بديع؟ كلنا نعلم من هو الطرف الثالث؟ كلنا أصبحنا نعرف من هو اللهو الخفى، أدق التفاصيل التى ظلت غائبة أعواماً حول حريق القاهرة أصبحت أوضح من عين الشمس، بل إن من البديهى أن نتوجه بأصابع الاتهام فى مجزرة بورسعيد إلى الجناة الحقيقيين، أى نعم، هم لا يلتزمون على الدوام بمسألة الزى تلك، وهو ما جرى- على سبيل المثال لا الحصر- عندما اعتلى البعض من الفرقة 95 الأسطح فى موقعة الجمل، ليقتلوا ثوار 25 يناير، لم يدركوا لحظتها أن الدنيا تغيرت، وأن توثيق الجرائم بتصويرها تفصيلياً عن طريق الموبايل أصبح فى متناول البشر جميعاً، كلنا نعلم أن الذين استطاعوا الفرار من السجون- على نحو غير مفهوم إلى الآن- يتجول معظمهم أحراراً فى أنحاء البلد ليرتكبوا المزيد من الجرائم بزى المنقبات.
هل هناك، ليس فى مصر وحدها، بل فى العالم بأسره، من لا يعرف أن حمامات الدم من اختصاص الإخوان، أو الدمامل التى طفحت على جلد الجماعة؟ هل هناك ليس فى مصر وحدها بل فى العالم بأسره، من لا يعرف أن القتلة هم أول من يتباكى على القتلى، وأن المتورطين فى الدم هم من يتسابقون فى اصدار البيانات المستنكرة أو الخروج علينا من خلال قناة الجزيرة ليقدموا لنا التعازي؟
وقد تصادف أحياناً فى عهد المخلوع أو الأخلع أن أقرر الذهاب إلى مكان ما، فإذا بى انطلق- كالسهم- فى الاتجاه المعاكس حتى أبلغ آخره، لعلها الرغبة فى المعارضة، فأنا بحكم الظروف، أو ربما بطبيعة تكوينى، أعيش منذ الصغر فى حالة اعتراض، حالة شبه دائمة، مع مراعاة أن الهدف من كلمة: شبه فى هذا السياق هو موسيقية العبارة، لا دقة المعنى، فضلاً عن أنه من الصعب جداً- فى بلد كهذا- أن يعثر الإنسان على شىء لا يستوجب الاعتراض.
ما حدث فى السنة الأسود من قرن الخروب التى حكم فيها الإخوان هو أننى انسحبت ذات يوم فجأة من نقطة ما تبعد عن قلب القاهرة بكيلومترين على الأكثر، الناس بعشرات الآلاف معتقلون فى الشوارع تحت حراسة مشددة، ما هذا؟ هل هى نهاية العالم التى يتنبأ بها الفلكيون كل أسبوعين أو ثلاثة؟ تتقاذفنى الكتل البشرية التى تنشق عنها الأرض، خيل إلى أننى لن أصل أبداً، تلخصت أحلامى - لحظتها- فى الحصول على الحد الأدنى من الأكسجين، أسأل شخصاً يبدو من هيئته أنه إخوانجي: ما الذى جرى؟ فينظر إلىّ باستنكار كما لو أنه يتهمنى بالعبط، أفهم لا أدرى كيف أن موكب العياط سيمر من هنا، ملحوظة: أشعر بأننى سأحتضر اختناقاً خلال دقيقتين بالعدد، ليس من الفرحة على أى حال، انتهت الملحوظة، رئتاى تنتفضان متشنجتين داخل القفص الصدرى كطائر يحترق، أقول لكبير البلطجية الإخوان إننى لظروف صحية استأذنه فى الانصراف، أقول له همساً إننى سأحرم نفسى هذه المرة من متعة النظر إلى طلعة مرسى البهية، فيجيب كالآلة: مش قبل ما يعدي!
أدركت فى مناسبات من هذا النوع أننا أصبحنا نتعرف على البلطجية من خلال عدة النصب: اللحية والزبيبة، من يومها وأنا أقول فى نفسي: عندما يحكم الإخوان يصبح الموت من أجل الوطن أسهل كثيراً من الحياة فيه.