د. رشا سمير تكتب: وداعا بهاء طاهر..أبانا الذي علمنا السحر
سألت نفسي في لحظة مكاشفة مع النفس..متى وكيف يشعر الروائي بالإمتنان؟
ولأنني قضيت حياتي بين الأوراق والأحبار، فكان من المنطقي أن أمتلك إجابة وافية عن هذا السؤال..
أهو التكريم؟ أهي الجوائز؟ أهو التقدير المعنوي أم التقدير المادي؟
فكرت قليلا وعلني وجدت الإجابة..المبدع يسعى دوما وراء التقدير وهو قادر على الإستمتاع بثماره، وتذكرت بحزن شديد كيف أننا لا نتذكر تكريم مبدعينا وفنانينا إلا عندما يرحلون، ولا يبقى منهم سوى بضعة أوراق فوق الرفوف وبضعة كلمات رثاء ممن عرفهم ومن لم يعرفهم.
يومها قررت أن أكسر القاعدة وأكتب عن كل من كان عنوانا للإبداع وهو موجود بيننا ليقرأ ويسعد ويعرف أنه في قلوبنا..
هنا قررت أن أبدأ به، أن أكتب عنه أو بالأحرى أن أكتب له، أن أرسل له سلاما حتى وهو بمنآى عن الأضواء وإن لم يعد قادرا على رد السلام..
ذكرى مع البهاء الطاهر:
في صبيحة يوم ٢٩ أغسطس عام ٢٠٢٠ كتبت مقالا بالجريدة عنوانه:
(بهاء طاهر..سلامٌ عليك أينما كنت مُبدعنا المتفرد)
كان المقال رسالة محبة وتقدير لروائي هو أستاذنا وصاحب قلم متميز، وأديب هو عنوان مصر وأحد أهم روائيها.
تذكرت هذا المقال يوم ٢٨ أكتوبر الماضي، يوم خرجت المواقع والصحف تُعلن عن رحيل أديب مصر صاحب الميراث الأدبي العظيم الروائي بهاء طاهر..
تذكرت ذاك الصباح الذي خرج فيه مقالي للنور وتمنيت يومها لو وصله هذا المقال في عزلته ومرضه عله يخفف عنه، وتمنيت وقتها لو قرأه وماذا لو أعجبه؟ تُرى هل سينجح المقال في رسم بسمة فوق شفاهه؟
يُسر بهاء طاهر:
بعد ساعات وعن طريق صديقة تعمل في مجال المكتبات هاتفني صوت رقيق وبكلمات تقطر ذوقا قالت لي: "أنا إبنة الروائي بهاء طاهر..يُسر بهاء طاهر"
كاد قلبي أن يرقص فرحا، إذا وصلهم المقال!.
أخبرتني أنها عرفت بمقالي وإشترت الجريدة وأنها بصدد الذهاب إلى شقة أبيها بمنطقة الزمالك لتريه له، وأخبرتني أنه معتل صحيا وربما لن يستطيع أن يستجمع تركيزه ويقرأه.
في نهاية اليوم عادت وطلبتني لتخبرني أن اليوم كان من الأيام التي كان أديبنا العظيم في كامل تركيزه وفرح عندما شاهد المقال وهو صفحة كاملة بالجريدة، وإبتسم كعادته قائلا:
"كويس الناس لسه فاكراني".
قلت لها على الفور، كيف ننساه وهو أبانا الذي علمنا السحر..أستاذنا وقدوتنا وأهم من هذا وذاك الرجل الذي علم جيلا من الأدباد دماثة الخلق والأخلاق.
طلب منها أن تقرأ له المقال كاملا، إستمع مبتسما وكان حسب كلامها يعقب عقب كل فقرة ويروي لها ما كان وراء تلك المواقف..سأل عني، فعرضت عليه صورة كانت لي معه في عام ٢٠١٠ في مكتبة ديوان بالزمالك حيث كان يترجل من بيته ويقضي وقتا طويلا بين الكتب، وكان لي شرف مقابلته هناك أكثر من مرة، أخبرته إبنته أنني من عشاق قلمه وتحدثت معه طويلا، إبتسم وأخبرها بأن المقال أسعده وأن كل كلمة فيه حقيقية..
وكانت تلك هي شهادة ميلادي وشهادة تقدير مني لمبدع حقيقي.
يناير الذي جمعنا:
ولد بهاء طاهر يوم ١٣ يناير، في شهر المبدعين والفنانين، وفي يوم ميلاده قررت أن أعيد الكرة وأرسل له معايدة في رسالة صوتية، وقامت إبنته الجميلة يٍسر مشكورة بتوصيلها له، ولن أنسى يومها كلماتها لي حين قالت: "أنا أحب كل من يحب أبي".
وكانت المفاجأة التي أثلجت صدري ردا بصوته في رسالة لازالت تنير هاتفي يقول فيها:
" وأنتِ بألف صحة وسلامة يا حلوة"
هام قلبي فرحا، فما أجمل أن نشعر بالقرب من الأقلام التي نحبها والمبدعين الذين قرأنا لهم صغارا فكانوا دون شك سبب في بناء مسيرتنا الأدبية.
شكرا ليُسر بهاء طاهر التي كانت حلقة الوصل والتي إهتمت بأن تُدخل السعادة على قلب أبيها قدوتها وسندها..وخالص عزائي لها ولأسرته ولمصر على هذا الفقد الكبير.
غاب بهاء طاهر، لكنه الغائب الحاضر أبدا، الحاضر بكلماته ورواياته ومواقفه السياسية المحترمة.
في مديح الرواية:
الأستاذ بهاء له كتاب صغير منمق عنوانه (في مديح الرواية) كتب فيه يقول:
" الرواية فن له مكانته وخطره في المجتمعات المتحضرة، هي بطبيعة الحال ليست منشورات سياسية ولا دعوة للإصلاح الاجتماعي ولا وصفة لعلاج الأخلاق والنفس، ولكنها تشمل شيئا من ذلك كله وتتجاوزه، وتأثيرها أبقى لأنه أبطأ وأكثر نفاذا إلى النفس"
وأضاف أن الرواية كان لها دور في تكوين الوعي العام لجمهور القراء، بدءا من صغار التلاميذ وحتى كبار الكُتاب وحتى زعماء الدولة، تحدث عن الرواية في الأربعينيات والستينيات وكيف تغير كل هذا وقت كتابة (في مديح الرواية) أي عام ٢٠٠٤، وبأسى شديد أضاف:
" الآن تصدر الروايات والقصص البديعة بدءا مما يكتبه نجيب محفوظ نفسه وأجيال الروائيين التالية له حتى شباب موهوب في العشرينيات من العمر، ولكن كل هذه الروايات تسقط في بئر الصمت، فلا يتجاوز تأثير أي رواية في أيامنا هذه – مهما بلغت خطورة القضايا التي تطرحها- حدود قرائها المعدودين"
وهنا يزيد أن الرواية تعيش أزهى عصورها وتقتحم أفاقا غير مسبوقة في أساليب الإبداع الفني وتسلط الضوء على الأوجاع الحقيقية للمجتمع، ولكن دون أن يكون لذلك أي صدى حقيقي في المجتمع المعني!.
وداعا صانع الحُب في المنفى:
لقد توارى بهاء طاهر عن الساحة الأدبية منذ سنوات قبل رحيله، إلا أنه كان ولازال باقيا في قلوب كل من عرفوه، وهاهو اليوم يغيب من جديد ولكن هذه المرة بلا أمل في العودة..
لا أجد خيرا من كلماتك لأختتم بها رسالتي اليوم إليك..
(( لا أفهم معنى للموت، لكن مادام محتما فلنفعل شيئا يبرر حياتنا، فلنترك بصمة على هذه الأرض قبل أن نغادرها))
سلام عليك بهاؤنا الطاهر أينما ذهبت.