أحمد فايق يكتب : نجوم السُلطة و سُلطة النجوم
من الحكايات الشعبية التى تسمعها فى شوارع المغرب، أن الملك الحسن الثانى كان يعزف على العود فى القصر وراء عبد الحليم حافظ وهو يغنى، فقد كان الرجل عاشقا للفن وصوت العندليب، ومن الروايات الشهيرة أنه جرت محاولة انقلاب على الملك المغربى، وكان عبد الحليم حافظ متواجدا هناك، وطلب الانقلابيون من العندليب أن يذيع البيان فى الإذاعة، واشترط حليم أن يتواصل على الهاتف مع الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، ورفض ناصر أن يذيع عبد الحليم البيان، هذه الرواية ساهمت فى تضييق مساحة الخلاف الكبيرة بين جمال عبد الناصر والحسن الثانى، بعدما ساعدت مصر الجزائر عسكريا فى حرب الرمال ضد المغرب، وكانت العلاقات سيئة بين مصر والمغرب، وطرد الملك المغربى المدرسين المصريين من هناك، لكن ظلت العلاقة الوحيدة التى تربط مصر بالمغرب فى هذا الوقت هى الفن وعبد الحليم حافظ.
فقد كان يعى عبد الناصر جيدا أهمية الفن والفنانين، ففى إحدى زياراته للمغرب استوقفه مواطن طالبا منه أن يرسل السلام إلى إسماعيل ياسين، وربما هذه اللقطة كانت وراء رعاية ناصر شخصيا لسلسلة أفلام تحمل اسم اسماعيل ياسين، وتهدف لخلق علاقة حب بين الجيش والشعب، وصناعة صورة جيدة عن الجيش المصرى فى العالم العربى، ففى هذه الأفلام الحياة داخل الجيش ليست قاسية، بل فيها تحضر وضحك وغناء وحب وحياة، وصورة القائد نفسها تختلف عن الحقيقة، فهو الشاويش عطية الذى يتصيد الأخطاء دائما للعسكرى إسماعيل لكنه فى معظم الأحيان خفيف الدم.. طيب.. جدع.. شهم، ودائما ماينصف الضابط الأعلى رتبة الحق، وينتصر للعدل، هذا غير مجتمع الجيش الداخلى القائم على الحب والتفاهم والود، يرتدون ملابس نظيفة ومرتبة، يأكلون طعاما جيدا، يعيشون فى مستوى اجتماعى معقول، يحملون أحدث الأسلحة، ويتدربون طوال الوقت.
لذا كان من الطبيعى أن تكون علاقة الفنانين بعبد الناصر رائعة، حينما قامت ثورة يوليو نسى عبد الناصر أن أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب غنيا فى القصر الملكى وللملك نفسه، تعامل معهما باعتبارهما ثروة قومية، واستخدمهما فى خدمة مشروعه القومى العربى، وتبنى شخصيا لقاء السحاب الذى جمعهما فى أغنية «إنت عمرى»، حينما اختلف عبد الحليم حافظ وفريد الأطرش انحاز عبد الناصر لفريد الأطرش، رغم أن حليم مطرب الثورة، فقد كان يؤمن ناصر حقا بالقومية العربية، وفضل نظامه أن تذاع حفلة أضواء المدينة لفريد الأطرش قبل عبد الحليم حافظ لأنه موهبة طاغية وأستاذ أجيال وسورى عرف العرب نجوميته فى القاهرة عاصمة الدولة العربية الكبرى.
لكن الصورة لم تكن دائما رائعة، فقد استخدم صلاح نصر ومخابراته الفنانات بشكل سيئ، وهذا مادفع فاتن حمامة للهرب إلى لبنان، وحاول عبد الناصر أن يعيدها لكنه فشل، كان يراها ثروة قومية، ومنحها وسامًا فخريًا، لكن هذا لم يفلح، كان عبد الناصر يحتفل بالفن والفنانين، وساهمت مؤسسة السينما فى إنتاج نخبة من أجمل الأفلام فى تاريخ السينما المصرية، وأثرى مسرح التليفزيون الحركة المسرحية المصرية والعربية، لذا عيد الفن كان موعدا مقدسا له، يحضره رئيس الجمهورية، ويكرم الفنانين.
قبله كانت علاقة الملك فاروق بالفنانات تقتصر على فكرة الصياد الماهر الذى يبحث عن الجميلات، وله الكثير من العلاقات الغرامية بالفنانات، أبرزهن «كاميليا» أو «فيليان فيكتور كوهين»، والتى سعى الاحتلال الإنجليزى من جانب والوكالة اليهودية من جانب آخر إلى استغلالها، وحتى الآن مازالت تفاصيل هذه العلاقة، واتهام كاميليا بالتجسس على مصر وزواجها بالملك محل تخمينات وروايات كثيرة ليست دقيقة، لكن الملك أيضا دعم الإنتاج السينمائى والمسرحى، ليس من خلال مؤسسات الدولة بشكل مباشر، لكن من خلال الدعم المعنوى، والمجتمع الكوزموبوليتان الذى يتقبل الآخر، ويحترم إبداعه ويتعلم منه، فلا يخفى على أحد أن اليهود هم تقريبا من أسسوا صناعة المسرح فى مصر بصفة خاصة والفن بصفة عامة، مثلما أسس اليهود الـ7 شركات الضخمة فى هوليوود، فقد كان الفن المصرى فى عهد الملك فاروق يحتوى العرب من كل الجنسيات من العراق ولبنان وسوريا وفلسطين وكل الأديان من اليهود والمسيحيين والمسلمين، حتى مواصفات بطل الشاشة فى عهده كانت مختلفة ولم تتكرر كثيرا بعده، مثل العراقى المسيحى «نجيب الريحاني» وصاحب البشرة السوداء «على الكسار»، لكن هذا لم يمنعه من أن يرفض زواج خاله شريف باشا صبرى من أم كلثوم، وتسبب هو والقصر الملكى فى إفشال قصة حب أسطورية بين الأمير وكوكب الشرق.
السادات كان يعشق التمثيل منذ البداية، وتمنى كثيرا أن يصبح ممثلا، وتقدم بالفعل لاختبارات الممثلين، وتم رفضه لأنه أسود البشرة، وغير موهوب، هكذا رأته شركات الإنتاج!
لكنه نجح فى أن يصبح رئيسا للجمهورية، ولديه ماض مع الكثير من الممثلين والممثلات، فقد اختبأ فى منزل تحية كاريوكا هربا من مطاردة الإنجليز له، كانت لديه علاقة جيدة بأم كلثوم التى ظلت تناديه «أبو الأنوار» حتى أصبح رئيسا للجمهورية، فقد أرسله عبد الناصر إلى أم كلثوم كى يودعها فى المطار وهى فى رحلة علاج للخارج، وقدم لها تحية أقرب للتحية العسكرية على باب الطائرة، لكن تجربة السادات فى الحكم لم تقدم كثيرا للفن المصرى، فقد بدأت الدولة فى رفع يديها عن صناعة الفن، رغم أنها كانت الصناعة الثانية التى تدر ربحا فى مصر بعد زراعة القطن فى عهد الملك فاروق، لكن علاقة السادات بالفنانين لم تتأثر وظلت وطيدة، إلى أن أصابه مرض «الرئيس المؤمن»، وظهرت على الساحة أكثر ياسمين الخيام، وتشجيعه لما يسمى بالفن المحتشم، وهى السنوات التى بدأت فيها نغمة الفن عيب وحرام ومايصحش، لم يعد للفن احترام، فقد أراد الرئيس المؤمن ضرب اليسار القوى بالتيارات المتطرفة دينيا، التى كفرت كل شىء، حتى تاريخنا وحاضرنا ومستقبلنا، وقتل السادات بنفس المارد الذى حضره ولم يستطع صرفه.
أما المخلوع مبارك فلم تكن له علاقة جيدة بشكل عام بالفن، لم يذهب للسينما مثلما فعل عبد الناصر فى بداية الثورة، ولم يكن له مزاج فى الفن، من الحكايات غير المؤكدة أنه فقط شاهد بعض المسرحيات فى القصر الرئاسى لعادل إمام ومحمد صبحى، وجاءه فريق عمل المسرحية بالكامل للتمثيل أمامه، فقط استخدم نظام مبارك الفنانين بشكل مكثف فى مواجهة الإرهاب فى التسعينيات، وتخلت الدولة عن الفن بعد ذلك واعتبرته عارا عليها، فقد كان لدى نظام مبارك عقدة فى التعامل مع كل ماله علاقة بالإبداع، لذا لم يتردد الفن المصرى لحظة فى المساهمة فى إسقاط نظام مبارك سواء بالأفلام التى انتقدت النظام وطالبت بإسقاطه، أو حتى بالمواقف الشخصية لبعض الفنانين الذين تقدموا صفوف ثورة 25 يناير مثل عمرو واكد وخالد الصاوى وفتحى عبد الوهاب وغيرهم، حتى بعض الفنانين الذين تصدروا مشهد الدفاع عن مبارك مثل طلعت زكريا هم أنفسهم شاركوا فى أفلام انتقدت بعنف نظام مبارك وطالبت بإسقاطه بشكل غير مباشر، ولا أدرى هل مشاركة هؤلاء فى هذه الأفلام كانت بوعى أم لا، لكن الأكيد مثلا أن يسرا وإلهام شاهين أكثر ممن دعمتا مبارك هما أنفسهما من فضحتا نظامه فى أفلام تعلمان جيدا رسائلها الضمنية وعن وعى كامل فقد شاركت يسرا فى طيور الظلام والإرهاب والكباب وقضية أمن الدولة وغيرها من الأفلام التى انتقدت نظاما كاملا واتهمته بالفساد، وانتجت إلهام شاهين «خلطة فوزية» ومثلت فى واحد صفر وغيرها من الأفلام التى ساهمت فى إسقاط نظام مبارك بالفن.
ومنذ اللحظة الأولى كان يعتبر المعزول مرسى الفن عارا وعبئا عليه، فقد سمح نظامه لمشايخ تكفير الفن، وتركهم يسبونهم بأبشع الالفاظ، وساهم الفنانون منذ اللحظة الأولى فى إسقاط الإخوان المسلمين سواء بالعمل الفنى أو المشاركة كأشخاص فى الفعاليات الاحتجاجية، مرسى تلخصت علاقته بالفن فى مجموعة من الصور التذكارية مع مجموعة من الفنانين جمعهم له صابر العرب وزير الثقافة وقتها والحالى أيضا، فى هذه اللحظات روجت ميليشيات الإخوان المسلمين للرئيس المتنور الذى يحب الفن، وتفاخرت بمجموعة من الصور المصطنعة، وهى نفسها الميليشيات التى تروج صور الفريق عبد الفتاح السيسى وزير الدفاع مع الفنانين قوى مصر الناعمة، معتبرين أنه راجل «بتاع راقصات» وهم يعلمون جيدا أن من يعى قيمة الفن سيصعد بمصر إلى أبعد النقاط، حتى الآن لم تتضح تجربة السيسى مع الفن، لكنه من الواضح أنه يحب الفنانين، ودعوته لهم فى كل المناسبات دليل تقدير لهم وبما يقدمونه لمصر، والفريق الآن مخير مابين طريقين الأول التعامل مع الفن بموديل صفوت الشريف وهو أوبريت يغنون له ويمدحونه ولا مانع أن يصنع أمن الدولة فضيحة لفنانة حتى تشغل الرأى العام عن الفساد السياسى، أو على طريقة عبد الناصر باعتبار المشروع الفنى يساوى قوة ونجاح الدولة المصرية.