بطرس دانيال يكتب: عون الله وحرية الإنسان
يصلّى داود النبى قائلًا: «جميع المخلوقات تعقِدُ عليك الرجاء كى ترزقها فى الأوانِ الغذاء، أنت الذى يؤتيها رزقها وهى تجمعُ، تمدُّ يَدكَ فإذا هى من الخير تشبع» (مزمور ١٠٣: ٢٧-٢٨). إن عناية الله بنا لا تعنى التواكل من نحونا، ولكن يجب أن ننهض ونشمّر عن سواعدنا لنعمل بهمّةٍ ونشاط. كم من مرة نتذمر فيها على الله وخاصة عندما نرى الآخرين فى تقدّم وازدهار، بينما نحن يعترينا الفشل؟ مرات عديدة نطلب من الله أن يساعدنا ويحقق لنا مطالبنا، فى حين أننا ثابتون فى أماكننا دون حراك، كما أننا نريد من الله أن يهبنا مانرغب فيه ويحرم الآخرين هذا الامتياز. والأمر المضحك هو أن الغالبية العظمى تريد أن تقدّم النصيحة لله القادر على كل شيء فى بعض أمور الدنيا وفيما يخصها ويخص الآخرين، وكأنهم يعاتبون الله الخالق الأوحد للكون مستفسرين: «لماذا نسيتَ أن تدعونا عند خلقك لهذا العالم لتأخذ رأينا ومشورتنا فى إدارته؟» يُحكى عن بحّارٍ قليل الخبرة قد عُهد إليه أن يصعد أعلى الشراع ليشد الحبال التى فككتها الرياح، ولسوء حظه كانت العواصف تهب بعنف، والرياح تضرب بجسم هذا الرجل المسكين كالسوط، وعندما يأس وهمّ بالنزول نظر إلى أسفل، فرأى البحر الثائر يجتاح سطح المركب، فارتعب ونادى بأعلى صوته: «انقذونى، لقد تلاشت قواى وسأغرق فى البحر حتى الموت، انقذونى من فضلكم». فصرخ به ربّان المركب: «يا عزيزى، لا تنظر إلى أسفل، بل إلى أعلى، ارفع عينيك إلى السماء ولا تنسى رحمة الله الواسعة». وبالفعل تشجّع البحّار رافعًا عينيه إلى أعلى، فرأى السماء الصافية الزرقاء، فهدأ روعهُ وتشجّع وبدأ فى النزول بسكينة وهدوء. فالدرس الذى نتعلّمه من هذه الأمثولة عندما تحيط بنا صعوبات الحياة ومشاكلها، هو أن ننظر بكل ثقةٍ وإيمانٍ نحو السماء، إلى الله الذى يعضّدنا ويساندنا حتى لا نقع. فعناية الله بنا لا تعنى أنه يسلب حريتنا، فكل شخص فى هذه الدنيا ينعم بالحياة التى منحها الله له بعناية فائقة فى كل لحظة، دون أن يقيّد حريته، وهذا يدل على حضور الله المستمر فى حياة كلّ واحدٍ منّا، حضور يحترم حريتنا. ويرشدنا فى ذلك القديس ألفونس دى ليجورى بقوله: «عندما نتأمل البحر الهادىء أو ذلك الثائر، نطبّقه على مايحدث داخل النفس البشرية التى تحيا فى نعمة الله وتلك التى بعيدة عنه، وعندما نتأمل الحقول والبحار والزهور التى تبهجنا بجمالها وتنعشنا بعبيرها، لنقل: ما أجمل المخلوقات التى خلقها الله من أجلنا على هذه الأرض حتى نحبّه، والسماء التى سيسعدنا بها». إنه يبيّن لنا بهذه الصور جمال القلب النقى، والمصير الأخير الذى ينتظر الصالحين واصفًا الله بالرحمة والحُب بقوله: «الله أَحَبّك أكثر من الأب، وأَحَبّك لكى تحبّه وتخدمه فى هذه الحياة، وتتنعم به فى الحياة الأبدية»، فحياة الإنسان هى أنشودة عذبة لمن يعرف كيف ينشدها. مَنْ يريد أن ينجح فى الحياة، لا يكتفى بالوقوف أمام الدرج الممتد أمامه ويتأمله، لكن يجب أن يُسرع ويبدأ فى الصعود، قد يتعثّر أحيانًا ويسقط أحيانًا أخرى، ولكنه سيصل حتمًا إلى النهاية. وكما يقول الكاتب الفرنسى André Malraux:»ما نحن عليه هو هبة من الله الذى خلقنا، وما سنصبح عليه هى العطية التى نقدّمها لله». وهذا يعنى أن عطية الله ليست لجماد أو لحجارة ولكن للإنسان كمخلوق حُر، وعليه أن يتجاوب مع هذه النعمة بالبر والمحبة والعمل. الله ينتظر تجاوب خليقته المحبوبة، ولكن للأسف كثيراُ ما تخذله، كم من مراتٍ لم يعطِ الإنسان ثمارًا ويخنق عطية الله تاركًا إياها حتى يعلوها الصدأ؟ كم من أشخاصٍ يشتكون من الحياة التى يعيشونها، ولا يعجبهم شيئًا مما منحهم إياه الله؟ لقد نسوا أن الله أبٌ حنون يدبّر أمورهم بكل حكمة، وهدفه الأول والأخير سعادة البشر جميعًا، وماعليهم إلا أن يثقوا فى تدبيره الأبوى ويضعوا أنفسهم بين يديه، وهذا يعنى أن يتقرّبوا إليه بكل إيمانٍ وثقةٍ، وأن يعملوا بكل جدٍّ ونشاطٍ لتحقيق مشيئته. فالعناية الإلهية تتوارى وراء الظروف لتتدخل فى الساعة المحددة، إذًا يوجد دائمًا ارتباط بين الإيمان والعمل، العناية الإلهية والحرية الإنسانية، ولذا يجب علينا أن نحترس من الاعتقاد السائد بأن كل شيء يأتى بالحظ فقط، وننكر عناية الله التى تتطلب منّا أن نشمّر عن سواعدنا، ونقوم بواجباتنا اليومية بكل إخلاصٍ وحُب. ونختم بكلمات عالِم اللاهوت Karl Barth: «أنا محبوب، إذًا أنا موجود».