منال لاشين تكتب: فى حضرة بهاء الصحافة
فى بعض الأحيان أسرح بخيالى، وأتصور لقاءً مع أستاذى بهاء بعد كل التدهور الذى تعانى منه المهنة، أحاول تصور رأيه أو بالأحرى حزنه على الأحوال.. فقبل أكثر من ثلاثين عاما كان الأستاذ بهاء يشعر بالأسى من أحوال الصحافة المصرية.. تأخرها عن التطور، غلبة الإعلان، تدخل جهات عديدة فى شئون الصحافة.. كان يشعر بالغضب لأن تقريرًا مزيفًا مزوءًا يمكن أن يؤدى إلى إعدام مستقبل صحفى شاب وينهى حياته المهنية، أو يتحول الإعلان أو بالأحرى جلب الإعلانات هى وسيلة تقييم وتقدم الصحفى فى مؤسسته، وأن يتراجع التدريب أو بالأحرى يختفى التدريب من قائمة الأولويات تماما.
ولذلك أعجز دوما عن تصور الكلمات التى ستختارها للتعبير عما تمر به الصحافة المصرية الآن.
ولكن رغم عجزى لا أزال أتذكر حديثنا عن حال الصحافة وكأن اللقاء قد جرى أمس، لا أظن أن لقاءً جمعنى بالأستاذ ترك أثره وبصمته على حياتى المهنية والشخصية مثل هذا اللقاء، ولذلك أتمنى أن يقرأ هذه الحلقة أكبر عدد من الصحفيين خاصة الشباب لأن بها إجابات عن أسئلة تؤرقهم وتصيبهم بالإحباط واليأس وربما تدفع بعضهم لترك المهنة.
توالى على القناة أسماء كبيرة بعد رحيل أسامة الشيخ وهالة سرحان وكل منهما ترك بصمة واضحة
كنت فى ذلك اليوم أحاول نزع الاكتئاب عن عقلى بسبب ما أشاهده من تدخلات فى المهنة من جهات أمنية وخباصين أو العصفورة أو غيرها من الطرق غير الأخلاقية للصعود، لاحظ الأستاذ بهاء تغير حالتى.. شرحت له تدخل الواسطة والأمن والانتهازية ووووو، فضحك وقال: معك حقك ولكن مع الأسف هذه المظاهر ستبقى لفترة، ولا أظن أنها ستختفى بمجرد رفضنا لها.. صدمنى كلامه، كنت أتصور أننى سأجد لديه قطرة تفاؤل ونقطة أمل تعاوننى على الصمود.. حين لاحظ صدمتى أشار إلى البابين فى غرفته.. أحدهما لاستخدامه الشخصى والآخر يتصل بغرفة السكرتيرة، وقال لى لو تصورنا أن الصحافة غرفة مثل التى نجلس فيها، وأن لها خمسة أو ستة أبواب.. كل شاب سيدخل من باب مختلف.. باب الموهبة والمهنية، باب كتابة التقارير، باب آخر للفتاة التى تستخدم مواهبها الطبيعية فى المهنة، باب آخر للمنافقين، باب خامس مثلا لمن ينقلون أسرار زملائهم للمديرين.. تصورى لو مر ٢٠ عامًا على كل منهم من سيصمد للنهاية ويصل إلى مراده، قلت على الفور: الصحفى المهنى.. قال بنفس الهدوء، ربما ولكن من خبرتى أؤكد لك أن من سيصل من هؤلاء هو من يملك الرغبة فى الاستمرارية، أو الإرادة.. لم أحتمل وقاطعته بسؤال: يعنى الأخلاق مالهاش فايدة، فضحك وهو يقول: يا أستاذة منال الأخلاق لها فائدة وفوائد كثيرة جدا، ولكن السؤال هو لمن؟ لم أفهم السؤال.. فقال بهدوء: المبادئ والأخلاق ليست وسيلة لتحقيق الأحلام، ولكنها اختيار يرقى به الإنسان.. وربما تسبب الأخلاق بعض العراقيل فى بعض الأحيان، ولكن عليك أن تطرحى على نفسك سؤال هل الأخلاق والمبادئ قابلة للتنازل فى حالة تعارضها مع العمل أو حتى مع الحب.. قلت له بسرعة: طبعا لا، فرد: عشان كده المبادئ والأخلاق اختيار، مش إحدى أدوات العمل، ولا بروش لطيف على فستانك، فهمتى، قلت بحزن: حضرتك عندك حق فعلا.. بس دى حاجة تحزن، فرد: فعلا، ولكن حتى تتجنبى الإحباط تجنبى المقارنة بين كل الآخرين من لم يأخذوا المبادئ اختيارًا لهم.
قلت له وقد استدعيت غرورى غير المبرر: أنا لا أقارن نفسى بأحد.. فضحك وقال: وبالطبع تقارنى نفسك بنفسك فى اليوم السابق.. قلت بخجل: طبعا فى ناس كويسين ممكن أقارن نفسى بيهم وبما وصلوا إليه، بس مفيش داعى الواحد يقارن نفسه بحد.. قال الأستاذ بهاء إن المنافسة بين الأصدقاء والزملاء المحترمين المهنيين، ولكن المقارنة الضارة هى أن يقارن واحد من الناس، وفى حالتنا أنت مثلًا ما حققه بالمكاسب التى حققها غيره من خلال أى من الوسائل الضارة، فمثل هذه المقارنة خطرة للغاية، إنها أشبه بسباق الانحدار، سكت قليلا كمن يستدعى أحداثا من الذاكرة ثم قال فى الغالب تتكون الصداقات من المتقاربين أخلاقيا، حاجة كدة زى المغناطيس، ولكن علاقات الزمالة تفرض على الواحد التزمات لا يجب تجاهلها.. قلت له مع الأسف، رد: شوفى أنا دايما باشوف إن الواحد مش من حقة يحاكم حد، كل واحد حر فى اختياراته إحنا مش أوصياء على حد، إذا الواحد قدر يسيب أثر طيب فى شخص فهذا شىء جميل، بس اوعى ساعات الناس بتشغل نفسها بمهمة إصلاح الآخرين أو تغييرهم، وفى الغالب لا أحد يتغير، ولكن سيضيع حياته فى لاشىء، ولم يحقق أحلامه.
فى هذه المقابلة شعرت بإحساس غريب، لم يكن اللقاء الأخير قبل مرضه، ولكنه كان لقاءً دسما، لم أتعود أن يقول الأستاذ نصائح مباشرة، وكل من يعرفه يدرك أنه كان يفضل أن يروى رأيه عبر قصة شيقة بطريقة أكثر تشويقا، ولذلك استشعرت التغيير بدهشة، لم يخطر فى بإلى أننى سأحرم من نعمة ومتعة اللقاء به بعد أشهر معدودة، ولكن طريقته المباشرة وصدقه فى تصوير الواقع المؤلم للصحافة فى ذلك الوقت أفادنى كثيرا، كان ولا يزال نقشا على الذكراة وفى عقلى، ومنبها يذكرنى فى كل المواقف السيئة بنصيحته الغالية الثمينة، لم أتورط أبدًا فى سباق الانحدار.
كنت وما زالت أستمتع بالنميمة فى الوسط الصحفى والفضائى، فلان بقى عنده ملايين الجنيهات، علانة مسكت منصب خطير، فلان اللى كنا بنأكل مع بعض سندوتشات الجمبرى الوسط من محل فى شارع القصر العينى ولا نملك ثمن الحلو لديه ثلاث فيلات.. وووو، ولكنها تظل فى إطار النميمة.. المبادئ والأخلاق اختيار، وكل واحد حر فى اختياره، وأتذكر أهم كلمة أو بالأحرى سؤال فى هذا الدرس الحصرى بلغة المهنة.. سألنى الأستاذ بهاء إيه ثمن المبادئ؟ فقلت مترددة.. أفتكر الأشياء الثمينة فى حياتنا ليس لها ثمن.. قال ضاحكا: أخيرا طيب ما إحنا متفقين.