عبدالحفيظ سعد يكتب: "الغابة" ضرب وحبس وقتل.. أهلًا بكم فى مجتمع متوحش
عندما كنا نلجأ لمصطلح أن المجتمع تحول لغابة، لنبرهن على قسوة التعامل بين البشر، وأن قلوبهم انتزعت منها الرحمة.. لم نكن ندرك أن العلاقات الاجتماعية أصبحت أبشع من قانون الغابة التى تعيش فيها الحيوانات. صحيح أن الحياة يحكمها قانون القوى يأكل الضعيف ومن له نفوذ يحطم كل من يقف أمامه بعضلاته وبنيانه وفكه المفترس، لكن قانون الغاب لا يحميه إلا العنف المبرر، ولم نسمع يوما فى الغابة أن قردا أو نمرا، جهز نفسه ليضرب زوجته كل صباح ولم يدر بخلدنا أن أسدا جانح قام بإيذاء أبنائه وهو يعلمهم الصيد.
الغابة التى نتخذها مثالا لقسوة التعامل، صارت أكثر لطفًا مما نعيشه، لا نتحدث هنا عن معارك الدول الكبرى وتهديدات النووى التى يمكن أن تبدد البشر أو عملية إرهابية يمكن أن تطال طفلا بريئا ورجلا مسنا وامرأة مستضعفة.. ما نتحدث عنه هو العلاقة البسيطة بين رجل زوجته، وبين تلميذ وأستاذه، وبين شقيق وأخيه.. يتحول الخلاف البسيط بينهم الذى يمكن أن يحل بكلمة أو حتى باعتذار أو ملاطفة أو حتى بقرار الفراق إلى معركة تسيل فيها الدماء وتتبعثر فيها الكرامة، القصة لا تقتصر على غبى أو جاهل، يقع فيها العاقل أو المتعلم وربما المتحضر، لكنها سلوكيات طغت على القلوب وحولتها لحجر صوان يقسو حتى لأقرب الأقربين إليه.
قبل أيام قليلة فزعنا للهيئة التى وجدت بها جثة فتاة أو المذيعة شيماء، والتى وجدت مدفونة فى مزرعة فى ضواحى الجيزة، وهى مربوطة بسلاسل حديدية وجسمها مشوه بـ«مية نار»، سكبها عليها قاتلها بعد أن لفظت أنفاسها الأخيرة، ما هى القسوة والوحشية فى القتل والتنكيل، لنتفاجأ بعد أن فكت الأجهزة الأمنية ملابسات الحادث أن القاتل زوجها.. الرجل الذى عشق جسدها وكان مصوغه أن يتلامسه ويستمتع به حبا وانبهارًا به، متغاضيا أن يواجه أزمات ومشاكل مع زوجته الأولى وأولاده ووظيفته المرموقة، نسى كل ذلك وأراد الانتقام ليس بالموت وحده بل بالقتل الشنيع والتشويه المتعمد والتنكيل لجسد استهواه، لنفاجأ أكثر بأن القاتل قاض..!
الوحشية التى اتبعتها القاضى القاتل مع زوجته، كانت كفيلة ألا نستغرب مشهدا لا يصدقه عاقل فيه.. زوجة فى بداية العقد الرابع من العمر تهرب وهى مسرعة على الطريق السريع بعد مساكن حدائق الأهرام بالجيزة، الشابة الثلاثينية تستغيث بسائق الحافلة المكيفة حتى يقف لها، وفى الخلفية باقى الركاب، فالسيدة مطاردة من رجل بسيارة وهو يحمل آلة حادة ملوحًا بها فى الهواء.
تتوقف الحافلة للسيدة المنهكة من الجرى والمطاردة من الرجل، تستغيث تتجمع حولها النسوة ليعرفوا ماذا يحدث؟ ومن الرجل الذى يطاردها شاهرا سلاحه فى عرض الطريق السريع؟ تخبرهم أنه زوجها هربت منه، كان يحبسها فى البيت ومنع عنها وسائل الاتصال بأهلها ويعذبها كل يوم حتى تمكنت أن تهرب منه خلسة، فأخذ يطاردها فى الطريق بسيارته.
الغريب أن الزوج لم يكن مختلًا، بل شديد الوعى، وهو ما ظهر عندما استمر فى مطاردة زوجته ومتابعة الحافلة التى تستقلها من بعيد ولم يتورط فى الهجوم على أحد ولكنه كان يتربص كأسد جائع يبحث عن فريسة وظل يسير ويخشى أن يواجه الناس. واستمر فى فعلته حتى اقترحت إحدى السيدات فى الحافلة أن نصطحب الزوجة المطاردة لقسم شرطة الهرم حتى نحميها من مطاردة الزوج، وعندما اقتربت الحافلة من القسم، غير الزوج مساره وهرب، وهو يدل على أنه واع ويخشى العنف والمشاكل رغم أنه منذ دقائق كان يريد أن يفتك بإنسانة وهى زوجته، مهما كانت الأسباب التي ساقها لمطاردتها والتهديد بقتلها فى عرض الشارع، فكان بإمكانه أن يطلقها أو يبعدها عنه ويدعها تذهب إلى أهلها، لكن اختار العنف الذى تخطى قانون الغابة.
العنف غير المبرر، صيغة اعتدنا أن نسمعها فى الأخبار التى تأتى وجعلتنا ينتابنا إحساس بأن الحياة أكثر قسوة من الغابة.. قبل ثمانية أشهر تابعنا قصة عروس الإسماعيلية التى تعرضت لعلقة ضرب ساخنة فى يوم زفافها على يد زوجها بعد أن تأخر تجهيزها فى الكوافير ربع ساعة عن ميعاد الفرح!
لم تنته قصة عروسة الإسماعيلية بعد، رغم ظهور الزوج وأهله فى محاولة الاعتذار عما حدث ليلة الزفاف وتحويل عرسها إلى مأتم، وبعد مرور أشهر من الواقعة خرجت العروس مرة أخرى، لتكشف أن مأساتها مع زوجها لم تنته بعد أن حبسها فى البيت ومنعها عن أهلها واستمر فى إيقاع الأذى بها، فى اعتقاد منه أنه سوف يسيطر عليها ويجعلها تعيش حياة الذل تحت كنفه، وهو لا يدرك أنها زوجته التى يريد منها أن تنجب له الذرية الصالحة، فما هو مبرره أن يستمر فى ضربها وتعذيبها والذى بدأ من يوم فرحها؟ كان بإمكانه أن يتركها تذهب لأهلها وينهى العلاقة التى لم تجلب له سوى الفضيحة ولها الضرب والإهانة، لكنه قانون الأكثر وحشية من الغابة قاده للاستمرار فى قانون يفوق الغابة.
دعنا نعترف أننا نعيش حياة يسود فيها العنف غير المبرر، والذى يمكن أن ينهى حياة إنسان حتى لو كان طفلًا لا يعى شيئا.. فى الأسبوع الماضى، نشرت المواقع والصحف واقعة إصابة تلميذة فى الصحف الرابع من مدينة بلقاس بالدقهلية بنزيف وارتجاع فى المخ ونقلها للعناية المركزة.
السبب كان فى الحادثة لم يكن تعدى شخص ما عليها أو إصابتها نتيجة خطأ فى مشاجرة، لكن الحادثة نتجت عن واقعة غريبة، فى مدرسة وفى حصة الطفلة الأولى طلب منها المدرس أن تخرج لتكتب كلمات على السبورة، فأخطأت فى بعضها، وما كان من المدرس الا أن يقوم بضربها بعصا غليظة على رأسها فتسبب فى إصابة الطفلة التى لا يتعدى عمرها عشرة أعوام، دون مبرر يجعله يقدم على فعلته إلا أننا نعيش قانون الغاب، وهو ما الذى يدفع معلمة أخرى، أن تمنع تلميذة أن تقضى حاجتها وتحبسها فى الفصل، فتضطر أن تتبرز على نفسها فتصاب باكتئاب وتكره المدرسة والتعليم!
هناك عشرات القصص والحكايات التى نسمعها أو لا نعرف عنها شيئا تحكى، حكاية كيف تحول الناس لقانون أشد عنفًا من الغابة، لا منطق يحكم فيه ويبرر استخدام القوة ضد أقرب الأقربين، وهو ما نشاهده فى حكايات الشاب الذى يقتل فتاة لأنها رفضت الزواج منه ووجع أهلها وضيع نفسه وأسرته بقانون القتل غير المبرر، وندق ناقوس الخطر، الأمر لا يحتاج لقانون يحمى فقط بل ثقافة مختلفة وروح السماحة قبل أن يسيطر علينا العنف الأكثر من الغابة.