حامد بدر يكتب.. فنجان القهوة الأخير.. نهايةٌ تليقُ بصاحبها
جلسنا سويًا في ليلة تداعب نسمات البرودة أركانها، أنا وصديقي الم ألتق به منذ 10 أعوام، وقليلا ما تسنح لنا الفرصة أن نختليا سويًا، منذ أن هجر هذا الوطن. وضعنا القهوة التي اعتاد أن يشربها بمزاج خاص، لم تشتم رائحة السكَّر إلا قليلا، ساخنةُ تكاد تُنضِجُ لسانَ من يلثمها على عجل.
لقد عاد من بعد سفر طويل، كانت رحلتثه مليئة بالمغامرات، وكنت أتشوَّق أن أستمع إليها أكثر من شوقي لأن أرتشف اللب الساخن، فهو ماهرٌ بالسرد المُنمَّق، والحكي الذي لا أملُّه..
المِزاَج
سألته مبتسمًا: مزاجك؟ ألا ترغب في ارتشافها؟
نظر إلىًّ: صديقي.. دعني أخبرك بما يصدمك.. نحن لم نعشق القهوة، بل عشقنا لحظات جميلة توافقت وحضورها.. كان أجدرُ بنا أن نشرب قدحا من النَّعناع، ويحضرنا ذات المزاج..
كان أجدرُ بالفرد منا أن يقرأ هذا الكتاب، أو يستمع إلى تلك الألحان شرقية الهوى الممزوجة بالطابع الغربي فيروزية الدلالة، أو أن يتغزَّل في معشوقته دون حاجة إلى هذه القداسة الزائفة..
الأكذوبة
ماذا صنعت تلك الأكذوبة؟
ألا بُعدا للأمزجة المُصطنعة؟
بادرته باستفهام؛ ليقاطعني:
كم اودُّ السفر إلى الساحل في رحلةٍ خلوية، دون هاتف، وسيخصر معى هذا الضيف بنكهته الساحرة، وأنظر إليه وهو يبرد جرَّاء هذه النسائم اللي تلفح لُبّه، فيفقد حرارته التي ما دام عشت أعتقد الرُّوح فيها، وما هي سوى حالة إدمانية أقربُ إلى العادة التكرارية.
حين يحدث هذا أتحرر من القيود، وتعود حرية الفكر عل غير ما اعتقدت طيلة الأيام السابقة.
الكفر بلذَّات الحياة قمة الوصول إلى حقيقة النفس، لا تعرف النفس حقيقتها، إلا عندما تكفُرُ بما يستحق أن يُكفرَ به؛ لتجد الإيمان.. خالص الإيمان.
ألم يكن إنكار البواطل نهج المؤمنين الأوائل، ألم يكن عقلانية نظرتهم كما جعلتهم يخرجون من ظلام الوهم، ويتركون الآثام مهما وجدوا فيه من اللذة؛ ليتذوَّقوا حلاوة الإيمان؟
بين الحب والعشق
نظرت إلى صديقي: وماذا ترى في الحب يا فيلسوف؟
شرد بعيدًا، وكأنَّ باطنه اللاواعي يتحدث: الحب أول ما يطئه الخلق على درجُ العاشقين.. فلا يكاد العاشق يصل إلى مرتبة عشقه حتَّى يكون قد أحبّ.
تعلم؟ فاقد الشغف لم يفقد الحب تماما، بل فقد المحبين، وحين يجد المحبوب والمحب يعود الشغف.. لا يعود بجنونه بل يعود بإدراكه ووعيه.
قد يبدو فقدان الشغف نقمة، وإن كانت هي بداية الحياة، كم من حياة بعد موات قلوب أصحابها، وكم من صحْوَةٍ بعد خُمُولٍ ظُنَّ أنه الفناء.. كم من سقيم نَالَ ما لم ينل الصحيح، كم من شهيد في جنان الله يهيم، وكم من حيِّ يعاني الأمل الأليم.
صدقني.. لن نجد اللذة حين تصل إلى بُغيتك، اللذة في الرحلة التي أنت تمارس فيها كل شيء، كل أنواع السلوك والمشاعر "الحب، الاشتياق، الحُزن، الفرح، الشغف، الصراع، المودة، حتَّى وأنت تحارب الخداع". أنت، وأنا، والجميع لا يدرك الرحلة ولا مغزاها إلا بعد أن يشبع، وتصير روحه منتشية لا ترغب في الدَنِيَّات؛ لتسعى إلى كَمَالٍ جَدِيدٍ، أو ربما كمالًا منقوصًا تتجددُ فيه الطموحات.
إنَّ مرحلة "الإشباع" كما يقول العلميين، تلك المرحلة الأخيرة الَّتي يفطُر بعدها شغف النفس، إلا حين يبرُز دافعًا جديدًا أو يتبلور أمامه معلنًا عن حاجة يرغب هو في تلبيتها.
السفر والرحيل
تنهَّد: "ليتنا سافرنا ولم نرحل.. فالرحيلُ لوعة لأصحابه.
ليتنا هاجرنا ولم نغترب، كم فقدنا في الهجر، وكم كسبنا، لكنَّ حمدًا للإله الواحد أنَّا عُدنا، وإليه لا لغيره راجعون".
سألته في استغراب: ألم تكن هذه رغبتك؟
لم تعد لدي رغبةٌ جديدة، بلغتُ مرحلة الاستواء تمامًا.. الآن أستطيع أن أتحلَّل من هذه الحياة، وبهدوء ودون حراك نظر إلى طور من أطوار القمر في السماء نظرةً طويلة، أسْلَمَ بَعْدَهَا الرُّوحَ إلى بارِئِها.
علمتُ بعدها أن هذا كان موعد فنجان القهوة الأخير، وأنَّ الراحلون دوم ً ما يتركون الفراغ، ويجيدون لعبة النهايات جيدًا، وأنَّها نهاية تليقُ بصاحبها.