في دراسة كنسية.. الربط بين معرفة الله المستقبلية واختيارات البشر لأنفسهم
أطلق الأنبا نيقولا أنطونيو متحدث كنيسة الروم الأرثوذكس في مصر، دراسة حملت شعار «المعرفة المسبقة لله والاختيار»، وجاءت عن كتاب “مئة مقالة في الإيمان الأرثوذكسي”، للقديس يوحنا الدمشقي.
وقال في دراسته: يسبق الله ويعلم كل شيء ولا يسبق فيُحدد كل شيء، فهو يسبق ويعرف ما هو في استطاعتنا ولكنه لا يسبق ويُحدده، فهو تعالى لا يشاء حدوث الشر ولا يقتسر الفضيلة، حتى أن سابق التحديد يكون تلبية أمر سبق الله وعرفه. وأنه يسبق ويُحدد الأمور التي ليست في استطاعتنا، ذلك: "كشخص مريض ولشدة مرضه قال الأطباء أنه سوف يموت، إلا أن هذا لا يعني أن المريض سوف يموت لأن الأطباء أقروا ذلك إنما هم توقعوا ذلك من حالته المريضة، لذلك موته لا يعود إلى الطبيب بل إلى مرضه، والموت هو خارج استطاعة الانسان".
وأضاف: الله نظرًا لمعرفته السابقة يحدد للحال كل شيء حسب صلاحه وعدله، فالله ليس هو علة الشرور، فالشر ليس هو فعل الله بل هو إلا بسماح من الله. لأن الشر ذو وجهين لهذا فإن له معنَيين: فهو حينًا يدل على الشر في الطبيعة، وهذا مضاد للفضيلة ولإرادة الله. وحينًا آخر هو شر ووجع يتنافى مع شعورنا، أي الأحزان والمصائب، وهذه تبدوا شرورًا لأنها مؤلمة، والحقيقة أنها صالحة لأنها تكون بواعث إلى الارتداد عن الشر والخلاص لمن يفهمون. كما أننا نحن أيضًا نكون علة الشرور، فإن من الشرور التي نرضى بها تصدر من شرور لا نرضى بها. فإذ نحن أخطأنا فلا يكون الله غير عادل إذا ما أنزل سخطه علينا.
وتابع أن الله يعرف من سيخلص ومن لن يخلص وذلك لمعرفته المسبقة بأعمال البشر، فاختيار الخير والشر يعود إلينا. فالأعمال الصالحة تعود إلى العون الإلهي لأن الله- نظرًا لسابق معرفته- يعين بأمانه عادلة الذين يؤثرون الصلاح بضمير مستقيم. والأعمال الطالحة تعود إلى التخلي الإلهي، لأنه الله- بسابق معرفته أيضًا- يتخلى عن الأشرار تخليًا عادلًا، لأنهم أصلًا هم الذين تخلوا عنه، وذلك لأن الله خلق الإنسان حرًا في اختيار عمل الخير أو الشر.لذا فالإنسان ليس كالحيوان الذي ينقاد للطبيعة ولا يقودها. فالحيوان نراه لا يقاوم ميل الطبيعة بل حالمًا يميل إلى شيء يقوم بعمله؛ أما الإنسان، فلأنه خُلِق عاقلًا، فهو يقود الطبيعة أكثر مما ينقاد لها، ولذا فإذا مال إلى شيء وأراده، فله المقدرة على أن يقاوم ميله ولا ينقاد إليه.
واختتم أما السبب في خلق الله لمن يعرفهم سيخطأون ولا يتوبون، ذلك لكي لا يبدوا الشر منتصرًا على الصلاح، لأن الله لصلاحه يُخرج الخليقة من العدم إلى الوجود وهو عارف مصيرها، فإذا كان الذين سَيُوْجَدُون بسبب صلاحه يمنعهم عن الوجود لأنهم سيصيرون أشرارًا برضاهم، فيكون الشر غلب صلاح الله. لأن كل ما يصنعه الله إنما يصنعه صالحًا، وأن كل أحد يكون صالحًا أو شريرًا برضاه الخاص. على ذلك فقول الرب "خير لذلك الرجل لو لم يولد" (مر 12:14) لا يعني إنتقادًا منه لصنعه الخاص، بل للشر الواصل لصنعه من جراء الاختيار الخاص والتهامل.