زاهدًا فيما سيأتي.. ناسيًا ما قد مضى
أغلبنا يذكر المقطع الذي غنَّته السيدة فيروز من أغنية "أعطني الناي وغنِّي" للشاعر الللبناني "جبران خليل جبران"، والذي يقول فيه:
هل جلست العصر مثلي بين جفنات العنب.. والعناقيد تدلَّت كثريات الذهب
هل فرشت العشب ليلاُ وتلحفت الفضا.. زاهداُ في ما سيأتي ناسياُ ما قد مضى
تمرُّ بنا حوادث الدنيا وكثيرًا ما تبقى بعضها عالقة داخل العقل تشغل البال لا تفتأ تتركنا، حتى يحدث العارض الذي يمثل نقطة فاصلة، وحدًا يفصلنا عن الماضي، وكذلك نتوقف عن التفكير في المستقبل حين نجد ما يشغل هذا التفكير سواء في الماضي أو الحاضر.
الرضا ذراع الزهد
والزهد في الأشياء تركها حين وجودها وعدم الاكراث بها حين إتاحتها وبمعنى آخر قلة حمل همِّها، فيصل الأمر إلى ما يرح البال ويطمئن القلب.
إنَّ نسيج الرضا وهو ذراع الزهد يعني التعامل مع المأمول بالطمأنينة، ولا يأتي ذلك سوى بالاستغناء عن معونة الناس والخلائق أو محاولة ىسترضاءهم‘ إلا ان يكون لله.
والزهد لا يكون في المال والذهب والفضة، بقدر ما يكون في كل لحظة يشعرفيها الفرد بكونه محتاجًا، مع عدم إنكار حاجة الناس لعون بعضهم العض. لكن الزهد مملكة إن أحسن الإنسان التعامل معهاتكونَّت لديه شخصية العقلاء الذي يعلمون أن لا حصول لهم على غرض ولا مكانة دون تيسير، وأنَّ فيالاستغناء قوة لو علمها الملوك لقاتلوا عليا العوام والبسطاء.
فالذي يعشق بحب هو الذي يزهد التفكير في ماضي معشوقه، والذي يقرأ بحق هو الذي يزهد الكمَّ الذي سيسهم به من بعد قراءته. فالزاهد ينسى بوعي، وغالبًا هو من يأتيه النجاح على طبق من فضة، بحيث يرقى إلى الكيف؛ ليصبح الكمّ أداة أكثر مما هو تحصيلًا وغاية.
فلننظر حين كانت أمتنا العربية والإسلامية سادة الأمم وحُكَّم العالم، كان أفرادها يزهدون ولا يطمعون؛ حتَّى أنَّ الخليفة الخامس عمر بن عبد العزيز، قال: "انثروا الحبوب على الجبال فلا يُقال أن طيرا جاع في عهد عمر".
الزهد داخل بلادنا العربية
تخيَّل معي لو زهد الناس داخل بلادنا في الكماليات التي لا نفع لها، تخيَّل كيف سينهض المجتمع، وتتحول النظرة من توجُّه نحو البهرجة إلى نظرة أكثر سموًّا، لو زهد الناس الرفاهة واتبعوا الرشادة. فلا حول لهم ولا قوةَّ ما دام تطلَّعوا إلى لحظات فانية، فهاهو شاب في مقتبل العمر ينفق الآلاف من أجل إقامة حفل زفاف، أخرى تتشتري من الاثاث المنزلي والاطباق وأطقهم الشراب؛ لتضعها تحفًا داخل دولاب صغير "النيش"، والزوجان بعد عام واحد أو عامين ربما يحارون في طفلهم الأول وكيف يوفرون له حياة سعيدة.
إنَّ الغرب الذي يبهرنا كثيرًا، ما يبهرنا سوى بالاعتماد على هذه الفضيلة، ففي بلادهم لن تجد من يشتري 50 كيلو من الأرز، و10 كيلوات من الفاكهة لتفسد البقيَّة. فيذكر أحد الذين الذين سافروا إلى الخارج أنه واجه مشكلة مع الشرطة لأنه استهلك كمية من الطعام لم يأكلها كلها وهو ورفاقه.
الزهد لا يعني الفقر وإنَّما حسن استغلال الموارد، بأن لا تتساوى مع النقد مهما بلغت قيمته.