د. نصار عبدالله يكتب: أحمد مراد ١٩١٩
الأستاذ أحمد مراد روائى موهوب مقتدر يمتلك أسلوبا متميزا بالغ الكثافة والديناميكية، غير أنى قبل أن أقرأ روايته (١٩١٩) التى صدرت طبعتها الأولى عن دار الشروق عام ٢٠١٤،... قبل أن أقرأ تلك الرواية كان رأيى فيه أنه كثيرا ما يبدد موهبته فى حواديت حافلة بالخرافات وعوالم السحر والجن والطلاسم التى تهدر القيمة الفنية والإنسانية حتى وإن كانت تتسم بالحبكة المحكمة والجاذبية الشديدة التى تضمن قدرا كبيرا من الرواج التجارى الذى بلغ ذروته فى روايته الشهيرة: «الفيل الأزرق»، وهو ما عبرت عنه منذ سنوات بمقال نشرته فى هذا المكان بعنوان: «أحمد مراد..خسارتك فى الهلس»، غير أن رأيى هذا فيه قد تبدد عندما قرأت روايته: «١٩١٩» التى تخلو من سلبيات فانتازياته السابقة الجامحة، بل إنها تتسم خلافا لتلك الفانتازيات بالواقعية التاريخية الناضحة التى تكاد فى بعض المواضع أن تصل إلى حد الكتابة التاريخية الخالصة أو إلى مستوى العمل التسجيلى دون أن تخل فى الوقت ذاته بالمستوى الفنى الروائى الرفيع،..الرواية كما يعبر عنها عنوانها تتناول ثورة ١٩١٩ التى اشتعلت فى مصر مطالبة بالاستقلال، حيث تجمع فى نسيج واحد متماسك بين البناء الفنى المحكم وبين الوقائع التاريخية الموثقة من خلال تناولها لعدد من الشخصيات المحورية فى الثورة بعضها شخصيات تاريخية معروفة على رأسها بطبيعة الحال رموز ثورة ١٩ من أمثال سعد زغلول، وعبدالرحمن فهمى، وصفية زغلول، وربيبتها نازلى عبدالرحيم صبرى (التى أصبحت فيما بعد الزوجة الثانية للملك فؤاد)، فى حين أن البعض الآخر من خلق خيال المؤلف، وإن كان هذا لا يمنع من إمكان وجود شخصيات حقيقية موازية أو مطابقة لها فى عالم الواقع، ومن بين تلك الشخصيات واحدة تلعب دورا من أدوار البطولة وأعنى بها الشخصية الأرمينية الجميلة «فارتوهى» التى وفدت مع أسرتها إلى مصر التى كانت فى ذلك الوقت (عام ١٩١٥) واقعة تحت الحماية البريطانية فرارا من المذابح التركية ثم تمصرت وتغير اسمها من «فارتوهى» إلى ورد وهو الترجمة العربية للاسم، وسوف يتغير اسمها بعد ذلك أكثر من مرة، كانت أولى المرات التى تغير اسمها فيها بعد وفاة والديها ووقوعها فى يدى قواد يدعى سلامة الشهير بسلامة النجس الذى استغل كونها قد أصبحت يتيمة، وقام بتشغيلها فى أحد بيوت الدعارة بعد أن استخرج لها رخصة مزاولة المهنة (كانت الدعارة إذ ذاك مهنة مصرحا بها رسميا فى مصر بشرط إجراء الكشف الطبى واستخراج الترخيص من مستشفى يقع فى منطقة كانت تعرف بالحوض المرصود)، وكانت المرة الثانية بعد هروبها من سلامة النجس واشتغالها فى فرقة بديعة مصابنى التى أطلقت عليها اسم لينا، ومن بين تلك الشخصيات أيضا شخصية عبدالقادر الجن ابن شحاتة الجن الفتوة الوطنى للسيدة زينب، لكن عبدالقادر خلافا لأبيه متعاون مع الإنجليز يقوم بتوريد البضائع المشروعة والممنوعة كالبودرة (الكوكايين) لهم فى مقابل ما يحصل عليه منهم من أموال وهدايا، غير أن موقف عبدالقادر الجن من الإنجليز سوف يتغير بعدما قاموا بقتل والده شحاتة الجن وهو يقوم بفض مشاجرة بين الأهالى ممارسا واجبه كفتوة للمنطقة، ومن بين الشخصيات المحورية كذلك شخصية أحمد كمال كيرة طالب الطب وقائد العمل الفدائى المسلح ضد قوات الاحتلال، والمشرف فى نفس الوقت على طبع المنشورات التى تدعو المصريين إلى الثورة ضد الاحتلال والتى كان يتم طبعها فى قبو يقع أسفل كافيه ريش القريب من ميدان سليمان باشا (بالمناسبة: مازال الكافيه رغم تغير ملاكه قائما فى مكانه إلى الآن)، ومن بين القائمين بالطباعة أعضاء جماعة: «اليد السوداء» التى تمارس العمل الفدائى ضد الإنجليز ومن أبرزهم: دولت فهمى التى تعمل بالتدريس فى إحدى المدارس، وهى شخصية حقيقية تقول عنها المراجع التاريخية إنها صعيدية الأصل تنتمى إلى قرية أبشاق بمركز بنى مزار بالمنيا، وقد انتهت حياتها بطريقة مأساوية لا نود هنا أن نشير إلى تفاصيلها حتى لا نفسد المتعة على من يرغبون فى قراءة الرواية بأنفسهم، منوهين هنا بأننا قد اكتفينا بعرض لأهم الشخصيات دون أن نتعرض لنفس السبب السابق، دون أن نتعرض لتداخل الأحداث وتفاعلها وتصاعدها دراميا، ويبقى أن نقول إن من سيقرأ هذه الرواية سوف يلم إلماما كاملا وموثقا أيضا بالكثير من الصور الفوتوغرافية للوثائق، سوف يلم بالوقائع التفصيلية لثورة ١٩١٩، وسوف يكتشف أن المصريين قد دفعوا ثمنا غاليا جدا للحصول على الخطوة الأولى من خطوات الاستقلال المتمثلة فى اعتراف بريطانيا رسميا فى فبراير عام ١٩٢٢ بأن مصر دولة مستقلة ذات سيادة.