د. نصار عبدالله يكتب: هيكل: المذكرات المخفية
دفعت مائتى جنيه ثمنا لنسخة من الطبعة الثالثة للكتاب الذى كتبه الكاتب المعروف الأستاذ: «محمد الباز» بعنوان: «هيكل: المذكرات المخفية» والذى صدر عن دارالريشة للطبع والنشر فى نحو ستمائة صفحة من القطع الكبير، وهو ثمن ضئيل جدا إذا ما قورن بكتاب مماثل صادر من إحدى دور النشر الأجنبية، لكنه فى الوقت ذاته كبير نسبيا إذا ما قورن بالكتب التى تصدر عن دور النشر العربية الأخرى، وبوجه خاص الدور الحكومية حتى بعد أن رفعت الدولة الدعم عن تلك الدور (ربما نتيجة لفلسفتها الراهنة التى لا تعتبر أن القراءة سلعة ضرورية)، أو ربما نتيجة لضغوط صندوق النقد الدولى الذى دأب على المطالبة برفع الدعم حتى عن السلع الضرورية ذاتها كشرط لاستمراره فى تقديم القروض!!، وأعتذر للقٍارئ عن هذا الاستطراد لأعود إلى الكتاب الذى استمتعت جدا بقراءته ولم أشعر بالندم على ما دفعته فيه (رغم أنى كثيرا ما ندمت على شرائى كتبا ثمنها أقل بكثير جدا)، وفى اعتقادى أن هذا الكتاب فريد فى معماره وفى أسلوب كتابته، وأبدأ بالقول بأن هناك فارقا بين سيرة حياة شخصية معينة وبين مذكراتها الشخصية حتى لو كانت تلك المذكرات تتضمن من بين ما تتضمنه سيرة الحياة، ذلك أنه إذا كان من السهل نسبيا أن تكتب سيرة حياة شخص غيرك إذا ما توافرت لديك المصادر والمراجع الموثقة فإن من الصعوبة بل ربما كان من قبيل الاستحالة أن تكتب مذكراته الشخصية (مالم يكن هو نفسه قد قام بإملائها عليك).. مع هذا فقد فعلها «محمد الباز»! وكتب مذكرات هيكل الشخصية متضمنة سيرة حياته وبأسلوبه هو (أى بأسلوب هيكل) دون أن يكون الأخير قد أملى شيئا عليه!!..كيف فعلها الباز إذن؟...الجواب يكمن فى أنه قد رجع أولا إلى مؤلفات هيكل ثم إلى سائر الحوارات والأحاديث التى أجريت معه وهى ليست بالقليلة، خاصة أن هيكل لم يتقاعس عن إجراء حوار مع أى منبر أو صحيفة ذائعة الصيت منذ أن ترك منصبه فى الأهرام فى أعقاب خلافه مع الرئيس السادات فى عام ١٩٧٤ واعتذاره عن قبول منصب مستشار لرئيس الجمهورية مفضلا أن يبقى فى مصر ككاتب مستقل يكتب من داخلها ولو دون منصب سياسى أو وظيفة رسمية وينشر فيها إن سنحت الفرصة ولم يسبب لغيره ضررا أو حرجا، فإن لم تسمح فإن منابر الخارج العالمية مفتوحة له بغير قيود!، وفى كل حوار من تلك الحوارات كان هيكل يروى طرفا من سيرته الشخصية أو بعبارة أخرى، كان يكتب بأسلوبه جانبا منها، وهكذا تبقى بعد ذلك مهمة لا أظن أنها بالهينة، وأعنى بها كيف تلم شتات هذه الأطراف المتناثرة لكى تكون منها نسيجا واحدا متماسكا مكونا من فصول متتابعة بشكل منطقى.. وهذا ما فعله الأستاذ الباز باقتدار، حيث ترك هيكل يتكلم عن نشأته العائلية كنجل لأب من ديروط الشريف يشتغل بالتجارة، توفى أكبر أبنائه الذى كان مرشحا لمباشرة المهنة بعد والده، وبالتالى كان لا بد للابن الباقى على قيد الحياة (وهو هيكل نفسه) كان لا بد له أن يتهيأ لتولى مهنة الأسرة بعد أبيه بديلا للابن المتوفى ما اضطره إلى أن يلتحق بمدرسة التجارة المتوسطة، لكن عشقه للصحافة جعله يلتحق بجريدة الإيجبشيان جازيت التى حقق فيها نجاحا لكنه كان محصورا فى القراء الذين يقرؤون الإيجبشيان جازيت وهم بطبيعتهم محدودون! وهكذا انتقل إلى الصحافة المصرية حيث يحدثنا بعد ذلك عن تجربته الطويلة معها، وعن عمله فى أخبار اليوم ثم تعيينه رئيسا لمجلة: «آخر ساعة» وهو فى التاسعة والعشرين من عمره حيث كان فى ذلك الوقت أصغر رئيس تحرير، كما يتحدث عن توقيعه بعد ذلك عقدا مع ملاك الأهرام تولى بمقتضاه رئاسة تحرير الأهرام التى كانت تعانى ضائقة مالية وانحدارا فى مستوى التوزيع لكنه استطاع بعد عام ونصف العام فقط أن يجعل الأهرام تقف على قدميها ثم أن يحول الخسارة إلى ربح، ولا ينسى بطبيعة الحال أن يتكلم عن الشخصيات التى أتيح له أن يعرفها، وبوجه خاص عن الصلة التى ربطته بالرئيس الراحل جمال عبدالناصر التى يصفها بـأنها فى المقام الأول صلة صداقة إنسانية خالصة أكثر من كونها صلة زعيم بكاتب آمن بأفكاره وتوجهاته واستطاع أن يعبر عنها على نحو يرضى عنه القارئ قبل أن يرضى به الزعيم. ورغم شمول هذه المذكرات واستفاضتها إلا أنها تبقى فيها كما يلاحظ الأستاذ محمد الباز مناطق رمادية لم يتكلم عنها الأستاذ هيكل ولم يتطرق إليها.. منها مثلا أسباب تركه لمجلة «روز اليوسف» التى التحق بها وعمل بها أكثر من عام ونصف العام.. لكنه لم يشر إليها فى أى حوار من حواراته !،..ويبقى لنا نحن أن نقول إن المناطق الرمادية موجودة بالضرورة فى أية مذكرات شخصية لأنها ببساطة أمر تفرضه الطبيعة الإنسانية.