بطرس دانيال يكتب: طوبى للفقراء
نقرأ فى المزامير: «لا تخَف إذا أصبح إنسانٌ ثَريًّا وإذا مازادَ بيته جاهًا، لأنه لا يأخذُ شيئًا عندَ موتِه ولا يَنزلُ مجدُه معَه» (مزمور ٤٨: ١٧- ١٨). يُحكى عن رجلٍ من عائلة ثرية جدًا، اصطحب ابنه فى أحد الأيام إلى الريف، بغرض أن يجعله يشاهد ويلمس بنفسه كيف يعيش الفقراء حياتهم اليومية. لقد قضى الأب وابنه يومان فى منزل أسرة فقيرة. وعند عودتهما للقصر الذى يمتلكانه، سأل الأب ابنه قائلًا: «كيف تبدو لك هذه الرحلة؟»- أجاب الابن: «لقد كانت فى غاية الروعة والجمال يا أبى!». -«أرأيتَ كيف يعيش الفقراء؟» –«نعم.. شاهدتُ ذلك ولمسته بنفسى». – «إذًا، أخبرنى ماذا تعلّمت من هذه المغامرة؟» أجاب الابن: «رأيتُ أننا نملكُ حمام سباحة يشغل نصف مساحة الحديقة؛ لكنهم يملكون نهرًا لا حدّ له. عندنا مصابيح مستوردة لتضيء لنا الحديقة؛ بينما يملكون كل النجوم التى تلمع فى السماء. عندنا شرفة تصل إلى حافة الحديقة؛ ولكن لديهم الأفق كله. نحن نملك قطعة أرض عليها قصرنا؛ بينما هم يعيشون وسط حقول لا نهاية لها. نحن نملك كلبًا واحدًا؛ بينما هم يملكون كلابًا كثيرة. نحن نشترى كل طعامنا؛ وهم يزرعون كل ما يحتاجون إليه. يوجد أشخاص يعملون لخدمتنا؛ ولكنهم يخدمون الآخرين. عندنا جدران عالية حول قصرنا لتحمينا؛ ولكن لديهم جيران وأصدقاء فى أتم الاستعداد لحمايتهم». لقد أجبرت هذه الإجابة الأب على الصمت، حتى أنه لم يستطع الرد بأى كلمة، ثم أضاف الابن قائلًا: «أشكرك يا أبى لأنك جعلتنى أدرك كم نحن فقراء!!». لنتعلّم من هذه القصة أن نشكر الله دائمًا أبدًا على جميع عطاياه، ونكفّ عن الشكوى والتذمر عمّا نفقده. مما لاشك فيه أن أساس البغض والحقد والحروب ينبع من حُب التملك والأنانية، وينتج عنهما العنف والسرقة والإساءة فى معاملة الآخرين، لأن الإنسان لا يشبع أبدًا طالبًا المزيد والمزيد من الأشياء. ما الفائدة التى نجنيها من حُب المال والغنى دون التفكير فى مساعدة المحتاجين؟ وما هى السعادة التى نحصل عليها إذا خالفنا ضميرنا فى سبيل الحصول عليهما؟ فالإنسان الذى يريد الحصول على المال ليستر حياته دون أن يصير عبدًا له؛ يحتاج إلى إرادة صلبة وقناعة داخلية. إذًا لا تكفينا الصلوات طوال اليوم، أو الاكتفاء بعاطفة المحبة نحو القريب، إن لم نقم بمبادرة فعلية فى سدّ حاجته. لذلك مَنْ يتطلع لسماع صوت الله والشعور بوجوده؛ يجب عليه أن يقوم بأعمالٍ خيرية، مثل زيارة المستشفيات، والعطف على الفقير الواقف على بابه أو الذى يصطدم به فى طريقه. فمن البديهى أن نتجنب عمل الشر، ولكن واجب علينا أن نقوم بأعمال الخير دائمًا، لأننا عندما نمتنع عن فعل الخير كأننا قمنا بعمل الشر، بسبب إهمالنا فى إنقاذ أشخاصٍ بحاجةٍ إلى مَنْ يسعفهم، كما يجب ألا نعتبر القيام بعمل الخير سخاءً منّا، بل هو واجبٌ مقدس، ودَيْن فى أعناقنا. فالفقير الذى لا نطعمه، نكون سببًا فى جوعه وشقائه، والمريض المحتاج للعلاج ولا نقوم بذلك نحوه، نعمل على قتله. هل نتخيّل الله يوافق أو يرضى بهذه التصرفات غير الإنسانية؟ كم من الملايين الشبعى الذين يأكلون حتى التخمة، حتى أنهم يمرضون من كثرة الطعام، فى حين أن هناك مئات الملايين الذين يموتون جوعًا؟! وكم من المسرفين فى المآدب والمحافل والسهرات الذين يلقون من فضلات الطعام أكثر مما يأكلون، فى حين أن هناك أخوةٌ لهم بؤساء لا يجدون ثمن الدواء الذى يخفف من آلامهم وأوجاعهم؟ مما لاشك فيه أن الشخص يسعى أولًا فى الحصول على ما يضمن له المعيشة، ثم يبحث عمّا هو مفيد، وهذا شيء ضرورى ورائع، ولكن من الممكن أن حُبّ التملّك يدفع الإنسان إلى البحث عن الراحة والسكينة، ثم يبدأ فى الشعور بالتلذذ بالأشياء التى يمتلكها بكل أنانية، ومِن ثَمَّ يقع فى التبذير وإفساد الخيرات. فالإنسان الذى يفعل هذا لا يفكَّر مطلقًا فى احتياج مَنْ لا يملك قوته اليومى، ويصل فى النهاية إلى مرحلة الجنون بتبديد ما يملكه دون معايير، لأن العلاقة مع الخيرات الأرضية والغنى، بحاجةٍ إلى اتزان نفسى وعاطفى وجسدى، وهذا يتطلب جهدًا شاقًا. فالإنسان الذى تمسّه الرحمة وتعزف على أوتاره الحساسة، لا تقف أمامه أى عوائق ليعبّر عن سخائه نحو المحتاج والفقير والمريض. ونختم بالقول المأثور: «ليس الفقير مَنْ يملك قليلًا؛ بل الفقير هو من يحتاج كثيرًا».