اعرف نبيك (5).. الومضات الشبابية في حياة خير الخلق
مر نبينا بكثير من المواقف والأحداث في حياته، وتمر الأيام عليه، وقد شبّ النبي الكريم، ولم يكن له عمل معين في أول شبابه، ولكن جاءت الروايات وتوالت بأن مهنته كانت
1رعي الغنم
لقد كان يسير طوال نهاره خلف الغنم، فرعاها في بني سعد ابتداءً، ثم في مكة على قراريط لأهلها.
إن مهنة كهذه يُشترط لها أمانة مع طول نفس، ولذا: ( ما من نبي إلا وقد رعى الغنم )، ولعل ذلك – والله أعلم -: لأن صورة القطيع شبيهة بسير سواد الأمم، والراعي قائد يتطلب عليه أن يبحث عن الأماكن الخصبة والآمنة، كما يتطلب ذلك حماية وحراسة لما قد يعترض قافلة السير.
وهذه المهنة فيها ما فيها من قسوة ومتابعة، إلا أنها تُثمر قلبا عطوفا رقيقا، وواقع حال رعاة الغنم خير شاهد على ذلك.
وبعيدا عن العمل وهمومه، وبعيدا عن كدح البحث عن لقمة العيش نقف مع
2 نوازع نفس محمد صلى الله عليه وسلم
يحدثنا النبي الكريم عن نفسه في تلك الفترة فيقول
(ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يهمون به من النساء، إلا ليلتين، كلتاهما عصمني الله تعالى منهما، قلت ليلة لبعض فتيان مكة – ونحن في رعاية غنم أهلنا – فقلت لصاحبي: أبصر لي غنمي حتى أدخل مكة، فأسمر فيها كما يسمر الفتيان. فقال: بلى.
فدخلت حتى إذا جئت أول دار من دور مكة سمعت عزفا بالغرابيل والمزامير. فقلت:
ما هذا ؟ فقيل: تزوج فلان فلانة. فجلست أنظر، وضرب الله على أذني، فوالله ما أيقظني إلا مس الشمس. فرجعت إلى صاحبي، فقال: ما فعلت ؟ فقلت: ما فعلت شيئا، ثم أخبرته بالذي رأيت. ثم قلت له ليلة أخرى: أبصر لي غنمي حتى أسمر بمكة. ففعل، فدخلت، فلما جئت مكة سمعت مثل الذي سمعت تلك الليلة، فسألت. فقيل: فلان نكح فلانة، فجلست أنظر، وضرب الله على أذني، فوالله ما أيقظني إلا مس الشمس، فرجعت إلى صاحبي فقال: ما فعلت ؟ قلت: لا شيء، ثم أخبرته بالخبر، فوالله ما هممت ولا عدت بعدها لشيء، حتى أكرمني اله بنبوته.
إنها الرعاية الربانية، تقف للحيلولة بينه وبين تلك النوازع، ولذلك جاء في الأثر:
( أدبني ربي فأحسن تأديبي ).
وتمر الأيام... ليبلغ النبي الكريم عشرون عاما، ليشهد حربا وقعت في شهر حرام، فتُسمى
3حرب الفِجَار
وقعت تلك الحرب سوق عكاظ بين قريش ومعهم كنانة وبين قيس عيلان، فاصطف القوم ووقعت حرب ضروس، وكان النبي الكريم يجهز النبل للرمي، وكثُر القتل في الطرفين، حتى رأى عقلاء القوم أن وضع أوزار الحرب والاصطلاح خير من الملحمة، فهدموا ما بينهم من العداوة والشر، وعلى أثر ذلك حصل.
4 حلف الفضول
إنه حلف الخير والعدالة، تداعت إليه قبائل من قريش في ذي القعدة، وكان اجتماعهم في دار عبد الله بن جدعان التيمي، فتعاهدوا وتعاقدوا على ألا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها وغيرهم من سائر الناس إلا قاموا معه وشهد هذا الحلف النبي الكريم – صلى الله عليه وسلم -، وقال عنه بعد أن أكرمه الله بالنبوة لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أُدعى به في الإسلام لأجبت.
ولا عجب في ذلك، فهو نبي العدالة والرحمة..
وتمضي الأيام... ويبلغ النبي الكريم الخامسة والعشرين من عمره، ليخرج إلى:
5 تجارة الشام:
وذلك في مال لخديجة بنت خويلد، بعد أن سمعت بأخبار الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم، وجعلت معه غلام لها يُقال له: ميسرة.
ذهب النبي الكريم إلى الشام، فما لبث أن رجع إلى مكة، فرأت خديجة في مالها من الأمانة والبركة ما لم تره من قبل، وحدّثها ميسرة بما رآه من حال الصادق الأمين، فما كان منها إلا أن سعت ليكون الخبر في أرجاء مكة:
6 محمد زوج لخديجة
وذلك بعد أن تقدم لها سادات قريش، فكان الإباء عليهم هو الجواب.
ثم لمّا رأت ما رأت بعد تلك التجارة المباركة: عزمت على نية أفصحتها لصديقتها: نفيسة بنت منبه. فقامت بدورها بذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم. فرضي بذلك، إلا أن والد خديجة حاول عبثا الوقوف أمام هذا الزواج الميمون، إلا أن حيلة خديجة كانت حَكَمًَا قاضيا في الموضوع، فما الذي فعلته خديجة ؟
يروي لنا ابن عباس رضي الله عنهما ذلك فيقول:
" إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر خديجة – وكان أبوها يرغب عن أن يزوجه -، فصنعت طعاما وشرابا، فدعت أبوها وزمرا من قريش، فطعموا وشربوا حتى ثملوا. فقالت خديجة لأبيها: إن محمدا بن عبد الله يخطبني فزوجني إياه. فزوجها إياه. فخلقته وألبسته حلة – وكذلك كانوا يفعلون بالآباء -، فلما سرى عنه سكره، نظر فإذا مخلق وعليه حلة، فقال: ما شأني هذا ؟ قالت خديجة: زوجتني محمد بن عبد الله. قال: أُزوّج يتيم أبي طالب !؟ لا لعمري. فقالت: أما تستحي ؟! تريد أن تسفه نفسك عند قريش، تخبر الناس أنك كنت سكران !! فلم تزل به حتى رضي ".
ويتزوج الشريف الشريفة، وتمر الأيام والأعوام على ذلك البيت الهادئ الجميل، ويُرزق منها بالبنين، والنبي الكريم يُقري الضيف، ويعين الملهوف، وينصر المظلوم، ويكون في حاجة أهله..
ويجرف مكة سيل عرم وينحدر إلى البيت فيُصدّع جدرانه حتى أوشك على الوقوع والانهيار، فاتفقت قبائل قريش على
7 إعادة بناء الكعبة:
وتبني قريش الكعبة بشرط مسبوق: " ألا يدخل في بنائها إلا طيبا، فلا يدخل فيها مهر بغي، ولا بيع ربا، ولا مظلمة لأحد من الناس ".
ويشارك النبي الكريم صاحب الخمس وثلاثين عاما في البناء، ويحمل الحجارة من الوادي مشاركا قومه في مثل هذا الحدث العظيم.
ويرتفع البناء، ويعود للبيت جلاله وهيبته، ولما بلغ البنيان موضع الحجر الأسود حصل الاختلاف، وتنازع القوم في شرف وضع الحجر الأسود أربع ليال أو خمس حتى كادت الحال أن تتحول إلى حرب ضروس !! إلا أن أبا أمية بن المغيرة المخزومي عرض عليهم أن يحكموا فيما شجر بينهم أول داخل عليهم من باب المسجد. فارتضى القوم ذلك.
فإذا بمحمد بن عبد الله بن عبد المطلب يكون ذلك الداخل. فهتف القوم: أن رضينا بالأمين.
فطلب عليه الصلاة والسلام رداءً فوضع الحجر وسطه، وطلب من رؤساء القبائل المتنازعين أن يمسكوا جميعا بأطراف ذلك الرداء، وأمرهم أن يرفعوه، حتى إذا أوصلوه إلى موضعه أخذه بيده فوضعه في مكانه. فرضي القوم بذلك، وانتهى نزاع كادت دمائه أن تصل إلى الركب.
وتمر الأيام... وغربة النبي الكريم تزداد يوما بعد يوم، فوجوه يعرفها، وأحوال ينكرها، كان ذا صمت طويل يزدان بالتأمل والنظر، لقد كانت تلك الفطرة التي جُُبل عليها تمنعه من أن ينحي لصنم، أو يهاب وثن.
فاعتزل القوم لما رأى من سفاهة أحلامهم، وتفاهة عقولهم، فكان عليه الصلاة والسلام لا يحضر عيدا لوثن، ولا يشهد احتفالا عند صنم، ولا يحلف بالاّت، ولا يتقرب لعزى، ولا يشرب خمرا، ولا يأكل مذبوحا على نُصب، فأبغض ذلك كله. يقول مولاه
زيد بن حارثة رضي الله عنه: "... فوالذي أكرمه وأنزل عليه الكتاب ما استلم صنما حتى أكرمه الله بالذي أكرمه وأنزل عليه ".
فكان عليه الصلاة والسلام موحدا على ملة إبراهيم الخليل عليه السلام.
لقد جمع الصادق الأمين من الأوصاف والشمائل ما جعلت محبته لا تقف عند البشر، بل تتعداه إلى الحجر والشجر، يقول عليه الصلاة والسلام بعد أن أكرمه الله بالرسالة: ( إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث)، فصلوات ربي وسلامه عليه.