الباب مفتوح.. تركيا 2050
لم يسبق لأحد أن تخيل المشهد الذي دار في أنقرة، صباح يوم ما خربف 2007. صعد الرئيس الإسرائيلي «شمعون بيريز» إلى «منصة الجمعية الوطنية الكبرى» وشرع في التحدث بالعبرية، وهي المرة الأولى التي يخاطب فيها زعيم إسرائيلي برلمان أي بلد مسلم.
في القاعة التي عمها الصمت قال بيريز إن "تركيا تشكل ترسيخًا للثقة وأنا قد جئت لكي أعرب عن تقديري بتركيا".
أضحت مهمة تركيا العالمية لترسيخ الثقة، ولم تكتفِ مجموعة من الزعماء الأتراك التي قادت البلاد إلى العالم، لم تكتف بكسر القوقعة التي اختبأ الأتراك في داخلها على مدى عقود، بل اعتمدوا الأصول التاريخية والجغرافية والثقافية والسياسية لتحويل تركيا لاعبًا أساسيًا على المسرح العالم.
مضى أكثر من نصف قرن على تركيا وهي حليف سياسي وعسكري للولايات المتحدة الأمريكية، علاقة قائمة على الشد والجذب؛ لكنها تناسبت دومًا مع حاجات اللحظة، وشكلت الحرب الباردة أطول هذه اللحظات تناغمت فيها حاجات البلدين تناغمًا استراتيجيًا، إذا أرادت الولايات المتحدة حلفاء يعتنقون المبادئ الأساسية لسياستها الخارجية، وقد شكلت تركيا دولة ثقة من دول خط الجبهة..
فهي مجاورة للشرق للأوسط لكنها ليست جزءًا من أي منها، وباتت تركيا نتيجة خيارها الخاص.
أمضت الجمهورية التركية بعدما خضعت لما سماه أحد الباحثين «جراحة تاريخية في فصول المخ» قرابة القرن تنفي وتختبئ من ماضيها العثماني الذي حكم فيه الأتراك إمبراطورية واسعة امتدت من الجزائر إلى بودابست ومنها إلى اعتناق الأهداف الاستراتيجية الغربية كأنها أهدافها.
قليلة البلدان التي أعادت كليًا صياغة مقاربتها للعالم بعد الحرب الباردة، لم تعد تركيا على خارطة العالم الجديد بل عادت لتصبح مرة أخرى ذلك الجزء الجغرافي الذي كانت عليه منذ زمن سحيق
فموقع تركيا وإرثها العثماني والمزيج الناجح من الإسلام يعطيها موقعًا استراتيجيًا هائلًا. وهي تُمسك بهذه الاستراتيجية بطريقة لا تفيد نفسها فحسب بل أيضًا الولايات المتحدة والغرب.
أخذت على عاتقها دور «الوسيط والمُصلح» والعالم في إلحاح إلى بلد يؤدي هذا الدور، عندما رغبت إسرائيل في إجراء مباحثات سرية في سوريا حينما كانت! طلبت من تركيا ترتيبها، وكلما هبط مسؤولون أتراك في بلدان منقسمة على نفسها مثل لبنان، العراق، باكستان، اليمن تتلهف كل فئة للحديث معهم لا يحظى الدبلوماسيون في أي بلد بمثل الترحيب الذي يحظى به الأتراك في كل من طهران وواشنطن.
فقد قدم أحمد داود أغلو حينما كان وزيرًا للخارجية مفهوم لقبه "العمق الاستراتيجي"،تصور تركيا حمامة سلام فائقة النشاط، وقضى حينها مشروعه الأول على كل خلافات تركيا مع جارتها؛ وقد نجح في هذا إلى حد كبير.
نظر العالم الإسلامي إلى تركيا في معظم تاريخها الحديث على أنها مرتدة فقد انتزعتها إصلاحات أتاتورك بعيدًا جدًا عن الإسلام، حتى بدا أنها لا تتمتع بأي شرعية دينية.
يمكن القول إن اعتناقها للسياسات الأمريكية شوه سمعتها والتي يجدها الكثيرون من المسلمين بغيضة، ولا ينطبق أي من هذه الاعتراضات على تركيا اليوم: إذ يحكمها إسلاميون ورعون من وجهة نظر البعض، وتمتلك سياستها الخارجية الخاصة، ويلقى زعماؤها ترحيبًا في أماكن كثيرة لم يكونوا مهتمين بزيارتها في الماضي.
تركيا لم تواجه أي مقاومة تذكر تجاه طموحها الجديد، وباحتفاظها بعلاقات طيبة مع الحيز الواسع من الحكومات والفئات تؤدي دورًا لا يمكن لأي دولة أخرى أن تؤديه.
لم يكن من قبيل الصدفة أن تكون تلك الكلمات عُنوان دراسة للباحث الأمريكي «جورج فريدمان» توقع فيها القرن الحادي والعشرين، فالماضي بشكل أو بآخر ينحت مسار المستقبل كالمعادلة الكميائية التي تحتاج لمثلث الحرارة لتخرج بانفجار النتيجة.
قال: عندما ننظر إلى حطام العالم الإسلامي بعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 ونفكر بالدولة التي يمكن أن تؤخذ على محمل الجد في المنطقة، نجد في وضوح أنها «تركيا»، وأرفق توقعه بخارطة للشرق الأوسط وشمال إفريقيا وجنوب شرق أوروبا تحت عنوان «دائرة النفوذ التركية عام 2050»، وبدت بشكل لافت أشبه بخارطة الدولة العثمانية.
ثمة ثلاث دول مرشحة لأن تلعب دورًا في العالم الإسلامي: مصر- إيران -تركيا حسبما ذكر «جورج فريدمان» عام 2009 أي قبل اندلاع الثورات العربية بثلاث سنوات. إلا أنه توقع أن تكون المنطقة العربية بحرًا من الفوضى، وسيجعلها هذا نهبًا لكل طامع، وستبلغ من التمزق حدًا يتجاوز التوقعات، وضعف مصر وانهيار اقتصادها يسحبها من هذه المنافسة، وكذلك فإن ما تعانيه إيران من عداء بينها وبين العرب وانشغالها بتأمين نفسها ضد صِدام أمريكي يحرمها كذلك من هذا الدور، فلن يبقى إلا الأتراك.
يبدو أن هذا الانجراف لا يجرد تركيا كونها شريكًا فريدًا للولايات المتحدة وكذلك الأمر بالنسبة إلى تركيزها الجديد على الشرق الأوسط وآسيا، فتركيا تعزز جاذبها الجغرافي من خلال توسيع امتدادها السياسي؛ ولهذا توصلت أمريكا إلى الإدراك أنهم يفتقرون إلى الأدوات التاريخية والثقافية، للتحرك في فاعلية في الشرق الأوسط والمناطق المحيطة به ويحتاجون إلى إرشاد، وربما كان الأترك على أهبة الاستعداد لهذا النوع من العلاقة مع الولايات المتحدة.
ولكن السؤال: لماذا النشاط التركي الواضح في الشرق الأوسط وآسيا؟ لا أحد يستطيع أن ينكر أن تركيا نضجت كدولة وامتلكت الثقة بالنفس لأداء دور عالمي، حررها انتهاء الحرب الباردة من القيود السياسية ووفر لها فرص ملاحقة مصالحها الأوسع، أو لأن تركيا لا تقبل الإهانة من أحد وتسعى دائمًا إلى إبرام اتفاقات صداقة جديدة في أي مكان.
وإذا نوهت الكلمات الأخيرة عن مصالحها مع أوروبا ولكن كيف ذلك؟
فقصة الحب العاطفية من أجل المصلحة بين أوروبا وتركيا وصلت إلى طريق مُظلم لا يرى أحد قيد أنامل الآخر، فقد ناقض بعض الزعماء الأوروبيين في شكل مباشر الوعد الذي قطعه الاتحاد الأوروبي لتركيا من حيث الانضمام إلى الاتحاد، فالأمر سيئ لتركيا لأن الاتحاد الأوروبي ساهم لسنوات في تشكيل السياسة الخارجية لتركيا.
ومن ناحية أخرى، تعاني أوروبا من هذا الصدع ففي حالة دخول تركيا الاتحاد الأوروبي ستكون لاعبًا محوريًا أساسيًا ورسالة واضحة إلى البلدان الإسلامية نصها (لو أصبحتم ديمقراطيين فسيفتح لكم العالم أبوابه) وبرفض قبول تركيا تصبح الرسالة معكوسة.
رغم الفوائد التي ستعود على أوروبا من انضمام تركيا في تهدئة الجماعات في العالم الإسلامي الذين يشكلون تهديدًا لأوروبا، وشبابها المتلهفين للعمل ولدفع الضرائب التي تملأ صناديق تقاعد من شابوا في البلدان الأوروبية، فقد فقدت أوروبا حماستها في هذا؛ فالمواطن الأوروبي العادي لا يتحمس لانضمام تركيا وبات يمتلك هذا المواطن كلمة أكبر في قراراته، ورأي نخبة رافضة من الأساس أن يوجد مقعد لأي بلد مسلم في الاتحاد الأوروبي.
يخشى آخرون كُلفة الدعم المستقبلي لتركيا بعد أن أنهك التوسع قواهم في قبول الكثير من الدول خلال السنوات الأخيرة رغم ذلك، هناك تخوفات من تخلي تركيا عن بقايا صداقتها مع أوروبا والاتجاه لمصلحة توجه مختلف.
عوائق تنتشر في طريق تتويج تركيا واحدة من دول الاتحاد، عوائق من صنع أوروبا وأخرى من تركيا نفسها.