رحل في 2001.. ما لا تعرفه عن مذكرات راغب مفتاح رائد الموسيقى القبطية
أحيت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، مؤخرا، ذكري رحيل الدكتور راغب مفتاح؛ معلم التراث الموسيقي الكنسي، ورائد الموسيقى والالحان القبطية، وقد أطلق عليه العديد من الألقاب في هذا الشأن.
وقد ذكر عنه في كتاب "راغب مفتاح رائد الموسيقى القبطية" ١٨٩٨- ٢٠٠١م
للدكتور ماجد عزت إسرائيل.
▪︎ نشأته
ولد راغب حبشي مفتاح في 21 ديسمبر 1898م بمدينة القاهرة، من أبوين كريمين شريفين، اشتهروا بالتقوى والصلاح وربياه على الفضيلة والتمسك بأهداب الاستقامة والثقافة القبطية، اشتهرت هذه الأسرة منذ أيام البابا بطرس الجاولي البطريرك رقم (109) (1809- 1852م)، منهم من تولى رئاسة المرقسية، ومن تلامذتها أقلاديوس الوجية، يوسف مفتاح ، وعريان مفتاح (1826-1886) م، وراغب مفتاح الذي أدخله والده المدرسة حتى حصل على درجة البكارلوريا سنة 1918م (الثانوية العامة)، ثم أرسلته الأسرة إلى ألمانيا لدراسة الزراعة بها، للوقوف على أحداث الدراسات والأساليب والأنظمة العلمية في هذا المجال حتى يكون عند عودته إلى مصر خبيرًا في الزراعية ليتولى الإشراف على أراضيها وحاصلاتها الزراعية.
▪︎ بداية اهتمامه بالموسيقى القبطية
بعد عودته من ألمانيا بدأ اهتمامه بالتاريخ القبطي والموسيقي والألحان القبطية، وفى سبيل المحافظة على سمات اللحن القبطي سافر إلى إنجلترا سنة 1927م ليستعين بخبراء الموسيقى، فتعرف على الأستاذ “أرنست نيولاند سميث” الأستاذ بالأكاديمية الموسيقية الملكية بلندن واتفقا – بعقد مكتوب – على أن يحضر سميث إلى مصر ويقيم بها لمدة سبعة شهور سنويا ما بين (أكتوبر – إبريل) على نفقته الخاصة لتدوين الموسيقى القبطية وتواصل هذا العمل ما بين (1928- 1936م).
وفى ثلاثينيات القرن العشرين اختار راغب مفتاح المرتل “ميخائيل جرجس البتانوني” كبير مرتلي الكاتدرائية المرقسية الكبرى (بالأزبكية) وذلك من بين كثير من المرتلين المشهورين في جميع أنحاء البلاد، وبحضور الأستاذ سميث لتسجيل طقوس وألحان الكنيسة القبطية لتسجيلها كنوتة موسيقية على ورق، فبلغ ما سجله راغب مفتاح ستة عشر مجلدًا.
وقد رأى راغب مفتاح بأن هذه الموسيقى القبطية تعكس تقاليد مصر الفرعونية، التي أثر منذ زمن طويل على تطور الموسيقى الغربية، وأكد ذلك في عام 1931م عندما سافر بصحبة أستاذه في الموسيقى أرنست سميث والذي دعاه لإلقاء مجموعة من المحاضرات بجامعات إنجلترا وOxford، Cambridge.
▪︎ شهرته
بين عشية وضحاها ذاع صيت شهرة راغب مفتاح في الموسيقى القبطية لدرجة حثت علماء أوروبا في مختلف العلوم على حضور محاضراته، وعلى سبيل المثال حضر محاضرته التي ألقاها بجامعة إكسفورد عالم المصريات بلاكمان Blachman، وعالم القبطيات كرم Crum، وعالم الفيزياء الشهير Einstein.
وفى عام 1932م وجهت الحكومة المصرية الدعوة لكبار الموسيقيين من ألمانيا والنمسا وفرنسا وإنجلترا والمجر وغيرها من البلدان، إلى مؤتمر لدراسة الموسيقى الشرقية للنهوض بها علميًا، وقد بلغ عددهم 29 موسيقيًا، كما وجهت الدعوة للأستاذ راغب مفتاح ممثلًا للموسيقى القبطية.
▪︎ تأسيس أماكن لتعليم الألحان
فى عام 1940م قام راغب مفتاح بتكوين خورس بمهمشة (مكان بالقرب من القاهرة) ومن أجل ذلك قام بالبحث على أشخاص ذوي أصوات جميلة يستلمون اللحن من المعلم ميخائيل البتانوني ويؤدونه بإتقان بأصواتهم الجميلة واستغرق هذا الأمر منه بحثًا ووقتًا وجهدًا، حتى أصبحت لديه تسجيلات بصوت المعلم ميخائيل وبأصوات الذين استلموا منه.
وفى عام 1945م قام صاحبنا بتأسيس مركز لتسليم الألحان للمرتلين والشمامسة بمنطقة مصر القديمة “كنيسة العذارء قصرية الريحان” وآخر بالقرب من ميدان باب الحديد (ميدان رمسيس حاليًا) لكبار المرتلين لاستلام وتثبيت الألحان.
وعندما تأسس معهد الدراسات القبطية سنة 1954م كان راغب مفتاح أحد مؤسسيه. وصار رئيسا لقسم الألحان والموسيقى فيه، وتزامن ذلك مع تأسيس القسم العالي للكلية الإكليريكية بمنى الأنبا رويس وفيه مجموعة من صفوة الطلبة المثقفين فاعتمد عليهم في تطوير الخورس ليسجل لمجموعة من الطلبة بعد أن كان يسجل لأفراد، وليؤدي اللحن جماعة بصوت واحد، متفق ومنسجم، لا نشار فيه، وبذلك لم يعد صاحبنا يجول المدن والقرى يبحث عن ذوي المواهب والأصوات، بل أصبح طلبة القسم الداخلي بالإكليريكية يتلقون دروس الألحان يوميًا في مكتبه بمعهد الدراسات القبطية، ويتابعهم ليصقلهم من خلال الدراسة، وفى الإجازة الصيفية كان يقيم لهم دورات دراسية في الموسيقى بضاحية أبي قير بالإسكندرية.
وشارك في تدريس الخورس بالإلكيريكية والدورات التدربية أساتذة موهوبون، نذكر من بينهم المعلم توفيق من دير المحرق (أسيوط) وكان أستاذًا يتقن التسبحة، والمعلم صادق عطا الله من أشهر المعلمين الذين سلموا الخورس فيما بعد المعلم إبراهيم عياد الحالي.
▪︎ تسجيل الموسيقى والألحان القبطية
كان راغب مفتاح يقوم بتسجيل الألحان بأسلوب علمي دقيق، فلو وجد هزة واحدة غير سليمة، يعيد تسجيله من أوله دون كلل ولو مرات عديدة، حتى يستقر في أدق وأروع صورة، ومن أجل ذلك اعتمد على التسجيل بالاستوديو الذي أسسه من قبل بمصر القديمة، ثم استكمله بمعهد الدراسات القبطية على يد صليب بسطروس ومهندس الصوت، وكان يتولى هو بنفسه الإشراف على الجماعة الموسيقية.
واعتمد على مجموعة من العلماء في سنة 1970م، ومن أجل ذلك وجه الدعوة للعلامة الموسيقية المجرية “مارجريت توت” رئيس قسم موسيقى الفولكور بالأكاديمية الموسيقية المجرية، لاستكمال القداس الباسيلي الذي كان قد بدأه الأستاذ سميث واستمر العمل حتى تم تسجيله بألحانه تامة بالنوتة الموسيقية الصوتية.
ومن بين عام (1984- 2001م)، استمر في مواصلة عمله الجاد في تسجيل الموسيقى القبطية فأتم تسجيلات تشمل: طقس الأكليل، طقس الصوم الأربعيني المقدس، طقس أحد الشعانين (أحد الزعف) طقس سبت الفرح، طقس صوم الرسل طقس صوم السيدة العذراء، ثم القداس الغريغوري.
▪︎ اهتمام عالمي
لفتت أعمال راغب مفتاح الموسيقية أنظار العالم، فبدأ بعض الدول الأوروبية توجه الدعوة لخورس ألحان معهد الدراسات القبطية بقيادة راغب مفتاح لزيارة مدن أوروبا، ففي سنة 1989م تلقى دعوة من إذاعة برلين، لباها فاستمع الشعب الألماني- لأول مرة- الموسيقى الكنيسة القبطية وتوالت بعد ذلك الزيارات المماثلة.
كما أشارت مجلة الكرازة في مارس 1989م إلى بدء قسم الموسيقى والألحان بمعهد الدراسات القبطية في إعداد نوتة موسيقية على أسس علمية لأول مرة في تاريخ الكنيسة القبطية، وفى سنة 1996م صدر قرار بابوي بتدريسها بالمعهد. وكان من مشروعاته المستقبلية رغم بلوغه سنة 102عام لتسجيل القداس الكيرلسي على النوتة.
ولمساندة مكتبة الكونجرس لأعماله الموسيقية والمساهمة في الحفاظ عليها ونشرها، قام في سنة 1995م بإهدائها مجموعة تسجيلات صوتية، موثقًا بها جميع الألحان القبطية لمكتبة الكونجرس الأمريكية ليتم حفظها كتراث هام من مجموعة التراث الموسيقي لهذه المكتبة العريقة.
▪︎ تكريم د. راغب مفتاح
قام قداسة البابا شنودة الثالث البطريرك رقم (117) في 7 يناير 1984م، في ليلة عيد الميلاد المجيد، بمنحه الدكتوراه الفخرية لإنجازاته في مجال الموسيقى والألحان القبطية.
وكرمه في حفل بهيج بالكاتدارئية بمناسبة عيد ميلاده المئوي في 21 ديسمبر 1998م، وأهداه صليبًا مذهبا تكريمًا لجهوده وما قدمه للكنيسة من أجل المحافظة على تراثها؛ وكان مما ذكره عنه قوله: “عمره قد شاخ، ولكن آماله لم تشخ مطلقا”، كما كرمته الجامعة الأمريكية بالقاهرة بهذه المناسبة، وصاحب ذلك صدور كتاب الموسيقى القبطية كأول تسجيل علمي متكامل لموسيقى ليتورجيه القديس باسيليوس الكبيرسنة 1998 م.
▪︎ مقتطفات من مذكراته
يقول د. راغب مفتاح في مذكراته عن نشأته "ولدت في 21 ديسمبر 1898م في بيت كان في جميع أوضاعه مشابهًا لبيوت قدماء المصريين، وكانت الحياة فيه توحي إلى الماضي السحيق، ولما كنت آخر أبناء أبي فكانت العادة أن الإبن الأصغر ينال عناية زائدة فقد حظيت بكل عطف ورعاية زائدة.
كانت الحياة في ذاك الوقت باقيًا فيها الكثير من العادات والتقاليد المصرية القديمة، وكانت المدن الكبيرة أكثر هدوءًا وراحة، فما كانت توجد السيارات ولا الطائرات ولا الراديو ولا التليفزيون ولا الميكروفونات…إلخ، تلك الأشياء التى تسبب الضجيج والإزعاج ولذلك كنا نعيش في راحة نفسية مستقرة.
كنت منذ صباي مرهف الحس لي أذن موسيقية قوية، لذلك فكنت أحب سماع الألحان الكنسية التي تردد في الكنائس أو في الحفلات، كما كنت أصغي إلى صوت الموسيقى المبهجة عند إقامة الأفراح والموسيقى الحزينة عند تشييع الجنازات، وكان لوقع تلك الألحان وتلك الموسيقى تأثيره العميق على مشاعري وأحاسيسي، وجديرًا بالذكر في هذا المجال أن أذكر شقيقًا لجدي كان راهبًا يمضي كل وقته في الصلاة والتأليف وترديد الألحان وشقيقًا آخر كان عالمًا لغويًا ولاهوتيًا أحيا اللغة القبطية ووضع الكتب اللاهوتية وكتاب خدمة الشماس المستخدم حاليًا All the responses of the liturgies and the hymns
كان كل هذا له أكبر الأثر في نشأتي، غرس في الحب الفياض للقديسين والنساك والشهداء والكنيسة والموسيقى والألحان.
وفي شبابي المبكر كنت أول الحضور في أوبرا القاهرة، التي كانت تستضيف فرقًا كاملة أجنبية على مستوى عالي(عالمي) من الممثلين سنة من إيطاليا وأخرى من فرنسا، وكنت دائمًا أحجز مكانًا لي في الصف الأول بجوار الأوركسترا؛ وكانت من أحب الأوبرات إلى نفسي هي “تاييس” وأحب مقطوعة موسيقية فيها “مقدمة تاييس” the meditation of Taise ونص هذه الأوبرا مأخوذة من التراث القبطي الذي يرجع إلى عصر الأنبا أنطونيوس(251 – 356م)أبو الرهبان في جميع أنحاء العالم، وكذلك شاهدت أوبرا عايدة Aida وهي B وصفًا خياليًا ممتعًا لحرب دارت بين المصريين والحبشة.
وعند سفري إلى فرنسا كنت لا أذهب إلى أي مكان في باريس سوى لدار الأوبرا بباريس والمكتبة الأهلية للإطلاع على المخطوطات التي تخص الكنيسة القبطية، وعندما كنت أتواجد في ألمانيا أتوجه إلى مشاهدة الأوبرات – ففي ميونخ( مدينة بالمانيا) أحضر أوبرا؛ وهي أوبرا فلسفية دينية عميقة وأوبرات Rein Gold، Seigfried، Die Gother وأوبرا Oberammergau وهي تمثيلية أسبوع الآلام التي كانت تؤدي مرة كل عشر سنوات وكان يؤمها الزائرون من جميع أنحاء العالم.
في صباي دخلت المدرسة الناصرية الإبتدائية التي كانت مخصصة لأولاد الأعيان ويلتحق بها هؤلاء من شمال البلاد إلى جنوبها، ولذلك قد تعرفت على أغلب أولاد الأعيان الأقباط(الاراخنة) في كل أنحاء مصر، وبعدها التحقت بالمدرسة التوفيقية الثانوية وبعد إنهائي الدراسة فيها توجهت إلى ألمانيا ولميولي للزراعة التحقت بكلية الزراعة حتى أعود للعمل في مزرعتي الخاصة التي اشتراها لى أبي بجوار ضيعته(القرية)، وفعلًا عندما عدت من ألمانيا أشرفت على مزرعتي لفترة من الزمن ولكن سرعان ما تركت كل ما في العالم وتفرغت فقط لخدمة كنيستي وأدركت أن في الكنيسة القبطية كنوزًا روحية وفنية وثرية. فوهبت كل حياتى وثروتي لهذا الفن، وظللت أجاهد وأكافح للنهوض به والحفاظ عليه".
وقد تنيح الدكتور راغب مفتاح في 16 يونيو 2001 عن عمر يناهز 103 عامًا، وقام المتنيح قداسة البابا شنودة الثالث بالصلاة على جثمانه الطاهر مع لفيف من الآباء المطارنة والأساقفة، وعميد وأساتذة معهد الدراسات القبطية.