كاريزما رَجل.. وخريطة ألمانيا القديمة
الزمان: النصف الثانى من القرن التاسع عشر.... المكان: أوروبا تحديدًا ألمانيا
المشهد: خريطة ألمانيا القديمة إلى جانب صورة رَجل.. قلب البصر بين هاتين الصورتين، ومن ثم أغمض عينيك في خيال متماثل؛ إذ بك إلى رؤية نافذة شيئًا فشيئًا صورتان تزدادان شبهًا في تمعن النفس الألمانية.
في عصر ثورات الشعوب وأحلام الأمم التي تُنسج في عمق الخيال لتتبدد، وربما من قبيل الصدفة تظهر لتختفي وكأنها "سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، كانت أوروبا تضطرب بأفكار الحرية والمساواة، وشعوب من فوهة ضبابية ترنو إلى غايات جميلة عسيرة!ً
فرنسا بأهلها الساخطين أبدًا الثائرين أبدًا، إسبانيا بصبغة شعب مضجر لا يرضيه شيء ثم هو لا يريد أن يحرك ساكنًا ليصلح شيئًا! ونواح بلجيكي إثر مناوشات فرنسية تارة، وترهيب ووعيد ألماني تارة أخرى.
وُفق البعض من هؤلاء إلى النصر ولم يحالف الحظ البعض الآخر في ميادين أخرى "فشلوا"، لكنهم لم يفشلوا كما فشلوا في ألمانيا.
إطار إحداثياته ما بين اضطراب متنافر، وفوضى سائدة ممتزجة بفساد شائع هكذا رُسمت صورة الواقع الألماني في ذلك الحين، فهذا ملكها "فريدريك ويليام" في صراع عنيف مع الشعب، ولكن توقعات تشير إلى حسرة أشبه بالتسليم "نتيجة انتخابات 1861″، كان ما يقرب من 70% لصالح الحزب الخصم آنذاك.
انقسمت الآراء: رأي "ويليمي ملكي" يرى النزول لرغبة الشعب غير خليق بالملوك، رأي ساسة بأنصاف عقول من أنصار (السيف هو الحل) حقًا.. "ويلٌ لأمة لا ترفع صوتها إلا إذا مشت بجنازةِ، ولا تثور إلا و"عنقها بين السيف والنطع".
ولكن بواقي لملمات من خيال الفطنة الملكية خشية مغبة ذلك، رغُم العناد المتعجرف كان فريدريك ويليام حانيًا على شعبه، حاول البحث عن كاريزما سياسية بنكهة اللين والحزم في آنٍ معًا، تأخذ بيده من النفق الضيق الذي أوشك ترابه أن يساعد في انقباض روح مُلكه.
فعُقد العزم على "أوتو فون بسمارك"، وزير بروسيا في باريس آنذاك، حينها ألمانيا كانت مجموعة من الولايات والإمارات لم تتحد بعد تحت شعار دولة واحدة.
الموقف حينها في حاجةِ مُلحة لإيمان بنكهة الحزم في التنفيذ؛ لهذا لم يكد يصل بسمارك حتى عُهد إليه بمقاليد الوزارة، كانت هذه العقلية البسماركية الألمانية تتطلع إلى الأمام عشرات السنين وبأعين حادة مترامية الزمان تصرح بأن السياسة العالمية في اتجاه التكتل، والصراع واقع بين تلك التكتلات لا محالة.. لا شك في المستقبل البعيد كان أو القريب.
كاريزما متأرجحة ما بين خيال بعيد بحذر وأيضًا واقعي، تعرف كيف تجد السبيل لتهبط من سماء الحُلم إلى أرض الواقع، هذه العقلية التي كانت تتخيل أنها ستحُد بما تنبأت به من صراع التكتلات.
فـ "بينجامين دزرائيلي" السياسي الإنجليزي هو من تنبه لهذه العقلية كونه في سباق معها أنصت إليها طويلًا، وقال لمن حوله: "احذروا هذا الرجل، إنه يعني ما يقول".
فطرته السليمة وعُنفوان وطنيته جعل من الصعب توقع أعماله، بالرغُم من فطنته لا يؤمن بحلقات النقاش البرلمانية على سبيل المثال وليس الحصر.. من وجهة نظره عبث لا طائل منه.
كانت سياسته ذات صبغة فنية لم تعرف كيف تسوس الأيام، ولم تكن من أنصار الخداع والكذب بصورة مزيفة ومتدنية كما هو حال الواقع البائس.
من مُريدي قاعدة "الادخار" في السياسة، الادخار في الصدقات، العدوات، التحالفات، الوعود، ليأتي أوان لكل منها.. طَبق (ألف – باء) سياسة "حليف الأمس عدو اليوم، لا مانع في مصادقة ومصافحة روسيا في يومه حتى يضمن تحالفها في حربه ضد النمسا، والعكس مطروح إذا أمر الواقع بذلك.
قواعد معلنة واضحة فقد نبه شعبه لمواطن الأخطار التي كان يعلمها حتى لا ينجرفوا إلى نادي الفشل بقوة شهدها التاريخ الأوروبي بأكمله، وتبين ذلك من تحليلاته السياسية في مذكراته.
"سلام فيه شيء من الخسارة خير من حرب فيها شيء من المكسب"، هكذا نصحهم بسمارك بعدم معاداة الروس؛ لأن موارد القوى الألمانية لن تستطيع مهادنة القوى الروسية، ولا مانع من تحالف إذا احتدم الأمر قطبيه روسيا – إنكلترا وفرنسا، وإن وقع المحظور ستصبح ألمانيا بين السيف والنطع، وحدث.
فاللجان الزمنية لاختبار "تأملات التاريخ الألماني"، بل الأوروبي بأسره أعطت مظروف النتائج: بأن رجلًا واحدًا فهم ألمانيا وفهم أوروبا كلها، ولو رجحت كِفة الحظ وشاء القدر أن يبقيه لأخريات أيامه لصد عن العالم حمم الحرب العالمية الأولى، ولكن القدر دائمًا وأبدًا مغير لخط سير الأحداث.