عصام زكريا يكتب : عندما تنتفض النسور
هذا الكتاب الذى صدر منذ أسابيع فى غمرة ثورة 30 يونيو وما تلاها من أحداث عاصفة لم يلق ما يستحقه من اهتمام أو تقدير باعتباره واحدا من أهم الكتب التى صدرت عن حرب أكتوبر على الإطلاق.
الكتاب هو «حديث النسور» لمؤلفه اللواء طيار متقاعد محمد زكى عكاشة، قائد السرب 62 مقاتلات، الذى كان له صولات وجولات خلال حرب الاستنزاف وحرب أكتوبر، وهو واحد من المثقفين الكبار فى مجال العسكرية، وصاحب عدة مؤلفات عن حروب مصر المختلفة.
فى كتابه الجديد «حديث النسور» الصادر عن دار «العين» يرسم اللواء عكاشة لوحة جدارية هائلة لبطولات الجيش المصرى، والشعب المصرى كله، خلال السنوات الست التى أعقبت هزيمة 1967 وحتى انتصار أكتوبر ومفاوضات الكيلو 101 التى أنهت الحرب فعليا ومهدت لعملية السلام المثيرة للجدل.
من بين كل الكتب التى صدرت عن حرب أكتوبر أعتقد أن هذا هو أشملها وأكملها وأكثرها موضوعية لعدة أسباب. أولها أن اللواء عكاشة، المتخرج فى الكلية الحربية عام 1962، قد عاصر هذه الأحداث وشاهدها بنفسه أو سمع عنها من مصادرها الأساسية. الثانية هى عقليته البحثية المنظمة وثقافته الواسعة، فهو يضيف إلى تجربته عشرات المصادر الأخرى من مراجع مصرية وعربية وأجنبية، تساهم فى إغناء وتعميق الأحداث المعروضة، بالإضافة إلى الاستعانة بمراجع رسمية من القوات المسلحة وأجهزة الدولة الأخرى. ثالثا اللواء عكاشة لم يكن طرفا فى الصراعات على السلطة أو الاختلافات الحادة فى وجهات النظر التى نشبت بين القيادة العامة للجيش ممثلة فى الرئيس أنور السادات وبين قادة الجيش، وبين بعضهم البعض، والتى جعلت شهاداتهم جميعا منحازة أو متأثرة بطريقة أو أخرى بهذه الصراعات والخلافات.
يتسم الكتاب أيضا بتلك النظرة البانورامية التى أشرت إليها، أو عين الطيار، النسر، التى ينظر بها اللواء عكاشة إلى الأحداث التاريخية. عين ترى الأمور فى كليتها، وفى نفس الوقت تهبط بعدسة الزووم إلى الأرض لتلتقط قصصا وتفاصيل إنسانية لا تنسى لبطولات وتضحيات المصريين.
يتسم الكتاب كذلك برؤيته للحرب والانتصار كعمل جماعى لا يتلخص فى البطولات الفردية، وإن كان يتجلى فيها، ولكن فى تلك الروح العامة بالتحدى والبطولة التى ظهرت خلال تلك السنوات فى كل قطاعات المجتمع المصرى وليس فى قواته المسلحة فقط.
وأخيرا فإن كتاب «حديث النسور» ربما يروى فترة تاريخية شبعت بحثا وتأليفا فى كتب سابقة لسياسيين وعسكريين ومراقبين من كل أطراف الصراع، عرب وإسرائيليين وأمريكان وسوفييت وأوروبيين، ولكنه يختلف عن معظمها بأنه كتاب «عسكري» يبين كيف تخضع الانتصارات والهزائم العسكرية للسياسة، وكيف تؤثر هذه الانتصارات والهزائم على السياسة، لا بشكل نظرى، ولكن بشكل تطبيقى باليوم والساعة والدقيقة، على الحرب العربية الإسرائيلية.
فى مقدمة كتابه يبين المؤلف أن هدفه الأسمى من الكتاب هو إظهار الحقيقة التى تستحقها «أحد أهم المعارك فى التاريخ» وهى حرب أكتوبر 1973، يكتب المؤلف:
«حرب الاستنزاف وحرب أكتوبر تختلفان تماماً عن الجولات الثلاث السابقة بين مصر وإسرائيل «1948-1956-1967». حيث كانت القوات المسلحة المصرية تجد نفسها مدفوعة إلى قتال مع العدو الإسرائيلى دون إعداد أو تخطيط، وإنما تنفيذاً لقرار سياسى لا يتوافق مع قدرة وكفاءة القوات المسلحة. فكان الطبيعى أن تنتصر إسرائيل فى الجولات الثلاث. لكن الموقف اختلف تماماً فى حربى الاستنزاف وأكتوبر73 بما سمح بظهور قدرة القوات المسلحة».
يسعى المؤلف من خلال كتابه إلى تأكيد فكرته الأساسية بأن حرب أكتوبر قد بدأت فعليا يوم الثانى عشر من يونيو 1967، عندما نزل الشعب المصرى إلى الشوارع بالملايين رافضا لتنحى الرئيس جمال عبد الناصر، معلنا عن عدم اعترافه بالهزيمة وإصراره على أن الحرب لم تنته بعد، وهو رد فعل جماعى يكشف عن «عبقرية الشعب المصري» حسب تعبير اللواء عكاشة، لم تتبين صحته للمصريين والعالم كله إلا مع الانتصارات التى بدأت تتحقق خلال حرب الاستنزاف وتوجت بانتصار أكتوبر العظيم.
ربما لا يعرف الكثيرون أن هزيمة 67 لم تكن انكسارا كلها، وأن هناك الكثير من صور المقاومة والتصدى لم تسجلها الكتب، أو أن الهجمات المضادة ضد قوات الاحتلال قد بدأت بعد أيام معدودة من الضربة الإسرائيلية.
يسجل الفصل الأول من الكتاب بعض هذه العمليات، مثل عمليتى الاستطلاع اللتين جرتا يومى 14 و15 يونيو، ومعركة «رأس العش» التى بدأت يوم 30 يونيو واستمرت لعدة أيام انتهت بفشل القوات الإسرائيلية فى احتلال بور فؤاد التى ظلت حصنا للمقاومة طوال السنوات الست التالية.
منذ السطور الأولى سوف يبهرك الوصف التفصيلى الدرامى للمعارك والعمليات الحربية، والتى تكاد تتوسل لصناع الأفلام والمسلسلات لكى ينقلوها إلى الشاشة. اقرأ مثلا هذا الجزء من وصف معركة «رأس العش»:
«تقدم العدو على الطريق شرق القناة قبل غروب شمس 30 يونيو بقوة قدرها سرية دبابات «10 دبابات» مدعمة بقوة مشاة ميكانيكية فى عربات نصف جنزير، بغرض الاشتباك ليلاً مع قواتنا اعتماداً على أنها أفضل وأكفأ فى القتال الليلى.. وبدأ الاشتباك مع موقع الفصيلة المصرية فى رأس العش فى السابعة مساء بقصف من الدبابات ومدفعية الهاون الإسرائيلية، واستمر هذا القصف لمدة ساعتين. ولم يحقق أى خسائر فى قواتنا، بفضل الحفر البرميلية التى قام بحفرها أفراد الفصيلة فور وصولهم إلى شرق القناة. وفى العاشرة مساءً تقدم العدو نحو مواجهة الفصيلة التى التزم أفرادها بحبس النيران حتى وصل العدو إلى مسافة 200 –300 متر. وفى تلك اللحظة انطلق رقيب الفصيلة البطل حسنى سلامة بالقاذف أر.بى.جى. مدمرا الدبابة الأولى وموجها تعليماته لباقى أفراد الفصيلة. واستمر القتال حتى الرابعة فجرا، حاول العدو خلالها الهجوم أكثر من مرة بالمواجهة أو الالتفاف من يسار الفصيلة، لكن باءت جميع هجماته بالفشل. وذلك لأنه لم يستطع المناورة بالدبابات والعربات نصف جنزير، لأن الأرض السبخية عن يمينه والقناة عن يساره بأمتار قليلة. كما أن أفراد الصاعقة كانت تحتل مواقعها الدفاعية بصورة جيدة. فأمكنها التشبث بالأرض وإيقاع خسائر كبيرة فى الأفراد، بلغت 40 قتيلاً ومثلهم من الجرحى وتدمير 5 دبابات و3 عربات مجنزرة.
تحت عنوان «الهزيمة أكبر معلم» يتناول الفصل الثانى من الكتاب دور المخابرات الحربية فى المعركة، وكيف تكامل مع دور القوات المسلحة بتوفير المعلومات اللازمة، بل والمشاركة فى القتال أيضا. وكيف كانت تتم عمليات الاستطلاع والتجسس بأقل الإمكانيات وبطرق مبتكرة، كما يسجل هذه العمليات بالتواريخ والأسماء والكيفية التى تمت بها.
بعدها ينتقل الكتاب إلى دور القوات البحرية خلال حرب الاستنزاف ويوثق لعمليات شهيرة سمعنا بها مثل تدمير المدمرة إيلات، والحفار الإسرائيلى فى داكار، وتفجير ميناء إيلات أكثر من مرة، بالإضافة لعمليات أخرى لم يسمع بها الكثيرون.
من الفصول الأكثر تشويقا فى الكتاب الجزء الخاص ببناء حائط الصواريخ بطول الجبهة الغربية لقناة السويس، والدماء الذكية التى سالت لمئات العسكريين والمدنيين فى سبيل الانتهاء من حائط الصد هذا الذى يقارنه المؤلف بخط بارليف على الجبهة الأخرى.
ومن الخطوط الأكثر تشويقا فى الكتاب أيضا التفاصيل الخاصة بالابتكارات المصرية للتحايل علي نقص الامكانيات بل وانعدامها أحيانا. فمثلا يروى المؤلف عن الطيارين الذين تغلبوا على عدم وجود طائرات مزودة بالكاميرات بإضافة كاميرات يدوية أو وحدات المراقبة بالنظر التى تم توزيعها بطول ساحل البحر الأبيض وخليج السويس والصحراء الشرقية، من خلال أفراد مزودين بأجهزة لاسلكى يتم الإبلاغ عن أى أهداف جوية تعبر فوق أو حول نقط المراقبة.
استغرقت حرب الاستنزاف أكثر من 500 يوم حتى توقفها بعد «اتفاقية روجرز» عام 1970، من 8 مارس 1969 وحتى 8 أغسطس 1970، يوثق الكتاب وقائعها وإنجازاتها وضحاياها، وهى أرقام حين تتجمع فى نهاية الفصول الخاصة بها يتبين أنها كانت أول انتصار لمصر على إسرائيل...قبل السادس من أكتوبر بكثير.
الفصول الأخيرة توثق بالطريقة نفسها لحرب أكتوبر، التفكير والقرار والتخطيط والاستعداد والتغلب على العقبات والساعات والدقائق الأخيرة التى سبقتها، والمعارك السياسية التى كانت تدور فى الخلفية وتؤثر على كل ما سبق، ثم الحرب نفسها بالتتابع الزمنى، والخرائط الموضحة، ودور كل سلاح ولواء وكتيبة ووحدة وحتى الأفراد البارزين فيها. وكالعادة نتائجها العسكرية المبهرة بالأرقام، وكواليس السياسة واجتماعاتها المفتوحة والمغلقة والرسائل السرية بين السياسيين، والدور العربى والسوفيتى والأمريكى فى هذه الحرب...وما آلت إليه فى النهاية من مفاوضات ونتائج يختلف بشأنها الكثيرون. كتاب «حديث النسور» يجب أن يقرأه كل مصرى ليعرف عظمة الإنجاز الذى تم، والأهم ليتعرف على «عبقرية الشعب» المصرى حين تتجلى، والتى لا تعرفها الأجيال الجديدة بالتأكيد.