د. محمود جلال يكتب: (1) الابتكار في الهند من منظور مؤشر الابتكار العالمي (ج1)
يقدم تقرير مؤشر الابتكار العالمي نظرة ثاقبة لنماذج الابتكار في بلدان العالم والذي يعتبر مفيدًا للدول للاسترشاد بها في تشكيل سياساتها وتصميم أجندة قابلة للتنفيذ للتميز في الابتكار وتسريع رحلتها نحو المستقبل الذي تتخيله لشعبها، والهند هي أولى النماذج التي سنتناولها:
فنجد أن الهند أحتلت المرتبة 48 في مؤشر الابتكار العالمي لعام 2020 وهي المرة الأولى لها للارتقاء إلى المراتب الخمسين الأولى، بل وحافظت على هذا التقدم ووصلت للمرتبة 46 لعام 2021، ويأتي ذلك بسبب قيام الهند بإنشاء نظام بيئي يولد الابتكار لتعزيز مكانتها كمركز للابتكار والمعرفة من خلال وضع قوانين جديدة لحقوق الملكية الفكرية وإطلاق العديد من المبادرات لدفع الابتكار ومنها:
- مبادرة الشركات الناشئة الهندية (Start-up India) والتي قدمت الدعم منذ عام 2015 وحتى الآن لعدد 70،295 شركة ناشئة في إنهاء إجراءات التسجيل والإعفاء من الضرائب وتسجيل حقوق الملكية الفكرية وشراء الحكومة منتجاتها وخدماتها وتوفير التمويل والدعم التكنولوجي والتسويقي.
- وبرنامج تسريع نمو ابتكارات الهند الجديدة (AGNIi) التابع لرئاسة الوزراء الهندية، ويتم تنفيذه من خلال الوكالة الوطنية لتشجيع الاستثمار في الهند (Invest India) والذي يعمل على تسويق الابتكارات التكنولوجية الهندية وكذلك جلب التكنولوجيا اللازمة لدعم الابتكارات الهندية.
- ومبادرة Atal Innovation Mission (AIM) التي أطلقتها المؤسسة الوطنية لتحول الهند (NITI) في عام 2016 كمبادرة حكومية لتعزيز ثقافة الابتكار وريادة الأعمال في البلاد من خلال تنمية القدرات العقلية لطلبة المدارس وخلق نظام بيئي لريادة الأعمال في الجامعات والمؤسسات البحثية والقطاع الخاص وقطاع المشروعات متناهية الصغر والصغيرة والمتوسطة:
* حيث قام أحد برامج المبادرة من خلال مستهدف "تربية مليون طفل في الهند كمبدعين جدد" بإنشاء مختبرات Atal Tinkering Labs (ATLs) في المدارس بجميع أنحاء الهند، والهدف من هذا المخطط هو تعزيز الفضول والإبداع والخيال في عقول طلاب المرحلة الإعدادية والثانوية وغرس المهارات مثل عقلية التصميم والتفكير الحسابي والتعليم التفاعلي وأنظمة التحكم الآلي والبرمجة وما إلى ذلك، من خلال تقديم أدوات وتقنيات القرن الحادي والعشرين مثل إنترنت الأشياء، والطباعة ثلاثية الأبعاد، وأدوات إعداد النماذج الأولية السريعة، والروبوتات، والإلكترونيات المصغرة، ومجموعات الأدوات اليدوية وغيرها الكثير، بهدف تحفيز عقلية مبتكرة لحل المشكلات داخل الأطفال، وشمل البرنامج حتى الآن 7،000 مدرسة تقدم خدماتها لأكثر من 2 مليون طالب.
* كما شمل أحد برامجها الأخرى توفير نظام بيئي دائم التطور للشركات الناشئة ورجال الأعمال، من خلال إنشاء حاضنات عالمية المستوى تسمى Atal Incubation Centers (AICs) في الجامعات، والمؤسسات والشركات، لتعزيز ودعم الابتكار على مستوى عالمي وبناء مؤسسات قابلة للتطوير ومستدامة، ويستهدف البرنامج إنشاء ورعاية نحو 50 شركة ناشئة عالمية المستوى كل أربع سنوات، من خلال دعم الشركات الناشئة المحتضنة بتوفير التكنولوجيات والموارد، والإرشاد، والتمويل، والشراكات، وشبكات الاتصال، ومساحات العمل المشتركة، ومعامل الاختبارات، وغيرها، حيث قام البرنامج بتشغيل أكثر من 68 حاضنة حتى الآن قامت بدعم أكثر من 1800 شركة ناشئة وخلقت أكثر من 15 ألف وظيفة.
* وكذلك إنشاء مراكز للابتكار المجتمعي (ACIC) والتي وصل عددها لخمسين مركزًا حتى الآن، مع تقديم دعمٍ ماديٍّ للمركز الواحد بما قيمته 642 ألف دولار بنظام التمويل المشترك.
* وبرنامج ARISE-ANIC challenges بالشراكة مع العديد من الوزارات والهيئات مثل وزارة الدفاع ومنظمة أبحاث الفضاء الهندية وذلك لتحفيز الابتكار في الشركات الناشئة والمشروعات متناهية الصغر والصغيرة والمتوسطة، حيث يتم تقييم الأفكار المتقدم بها هذه الشركات والمشروعات وتحويلها إلى نماذج أولية مبتكرة قابلة للتطبيق يليها تطوير المنتجات والتسويق التجاري، وتم اختيار 160 متقدمًا وهم يخضعون حاليًا للتقييمات.
* وأخيرًا لتمكين جميع المبادرات من النجاح أطلقت برنامج Mentor India - The Mentors of Change والذي يقدم التوجيه والمعاونة في الإدارة لأكثر من 10 الآف جهة منها 4 الآف تابعين لبرامج ATLs وAICs.
- ومهمة المدن الذكية (Smart Cities Mission) لتطوير المدن الهندية وتحويلها إلى مدنٍ ذكية صديقة للبيئة ومستدامة، وتضمنت المرحلة الأولى للمهمة خلال الفترة من 2019 إلى 2023 تطوير عدد 100 مدينة من خلال تنفيذ 6939 مشروعًا بها بقيمة 25 مليار دولار.
- ومخطط UAY لتحسين الميزة التنافسية للمنتج الصناعي الهندي، حيث يقوم بتمويل المشروعات البحثية المبتكرة الأكثر احتياجًا لها في الصناعة، وبتمويل ودعم مشترك مع جهة صناعية، الأمر الذي يعمل على الآتي:
* تعزيز الابتكار في المجالات ذات الصلة المباشرة بالصناعة.
* تحفيز العقلية المبتكرة لدى الطلاب وأعضاء هيئة التدريس في المعاهد التكنولوجية الرائدة.
* تحقيق عمل منسق بين الأوساط الأكاديمية والصناعة.
* تعزيز المعامل والمراكز البحثية في المؤسسات التكنولوجية الرائدة.
* الحصول على تمويل بحثي قائم على النتائج.
هذا وقد حققت الهند تقدمًا كبيرًا في العقد الماضي في بناء النظام البيئي للابتكار بها، مع نحو 50 ألف شركة ناشئة، مما جعلها تعد اليوم ثالث أكبر حاضن للشركات الناشئة بعد الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة، وجدير بالذكر أنه بلغ إجمالي قيمة الشركات الناشئة عالميًا 3.8 تريليون دولار، الأمر الذي يوضح مدى أهميتها للنمو الاقتصادي للبلاد.
وأيضًا احتلت الهند المرتبة 17 عالميًا في قوة أداء النظام البيئي الحاضن للشركات الناشئة عام 2019، والذي يرتكز على عدد وجودة الشركات الناشئة في بلد ما وبيئة الأعمال، الأمر الذي جعلها ترتقي إلى المرتبة 46 عالميًا في مؤشر الابتكار العالمي لعام 2021 بعد أن كانت في المرتبة 81 عام 2015، وذلك نظرًا للتأثير الكبير لأداء النظام البيئي للشركات الناشئة على المرتبة الإجمالية للابتكار، حيث تؤدي الاستثمارات الكبيرة في البحوث والتطوير والبنية التحتية للابتكار إلى أن تصبح الأنظمة البيئية للشركات الناشئة أكثر قوة.
وفي تصنيف StartupBlink لعام 2019 للمدن الأكثر ريادة في الأعمال، وصلت ست مدن هندية إلى قائمة أفضل 100 مدينة، حيث احتلت بنغالورو المرتبة 11 عالميًا كأفضل المدن لريادة الأعمال، بينما تبعتها نيودلهي ومومباي في المركزين 18 و29، على التوالي، كما أشتملت القائمة أيضًا على تشيناي وحيدر أباد وبيون.
بينما نجد أنه وفقا لمؤشر التجمعات العلمية والتكنولوجية لعام 2019، احتلت بنغالورو المرتبة 65، تليها دلهي في المرتبة 70 ومومباي في المرتبة 97.
والتصنيف الأول مبني على الابتكار، مع الاستثمار في البحوث والتطوير والاحتياجات المرتبطة به كمحرك للنمو والتنمية، أما الأخير فمبني على ريادة الأعمال كمحرك لخلق الثروة.
وبعد النمو في النظام البيئي للابتكار بالهند، تشهد أيضا ظهور مجموعة جديدة من البنى التحتية تسمى "الابتكار المشترك" أو "innovation commons"، من خلال مجموعة من المتطوعين للقيام بإرشاد المبتكرين ورواد الأعمال خلال مراحل التطوير المبكرة، وتقديم الموارد الفكرية والدعم من المساحات والمعدات للمعاونة في بناء الأفكار والابتكار المشترك وتطوير المنتجات والنماذج الأولية، والسعي لبناء حلول لا يمكن تحقيقها من قبل مؤسسة أو شركة واحدة.
مثال على ذلك هو India Stack، الذي يقدم مجموعة من واجهات برمجة التطبيقات لمعاونة المبرمجين في إعداد البرمجيات اللازمة لحل التحدي الكبير الذي تواجهه الهند المتمثل في الشمول الرقمي والمالي، وتشمل واجهة منصة الدفع الموحد التي تستخدمها البنوك للمدفوعات الرقمية، وأيضا واجهة منصة الصحة المحلية الخاصة بالتحول الرقمي للأنظمة الصحية.
كما أظهرت جائحة فيروس كورونا (COVID-19) وجود شبكة واسعة من مجتمعات الابتكار النشطة والحيوية في البلاد، من الأوساط الأكاديمية والصناعية والشركات الناشئة والأفراد والتي عملت على تطوير منصات مشتركة في إطار تعاوني لإيجاد الحلول لمواجهة الجائحة.
وتأتي هذه الجهود كثمرة للسياسات الصحيحة والتميز الأكاديمي وانتشار ثقافة الابتكار التي أنتجت عقولا شابة وفاعلة وراغبة في حل المشكلات الصعبة، وخلق مناخ من الاستثمار التراكمي في المعرفة لتحقيق قفزات كبيرة تمكن الهند من أن تكون من الدول العشر الأكثر ابتكارًا في السنوات الخمس المقبلة.
وللحديث بقية،