عادل حمودة يكتب: جنون الدولار والحنين إلى الذهب
فرض ٨٠٠٠ حصار اقتصادى.. وأعتى الحروب والأزمات فشلت فى صد هيمنته على العالم
التخلى عنه يعنى العودة إلى «الحمام الزاجل» فى «زمن الإنترنت»
كائن أسطورى يأتى بالرخاء.. وبطاقة هوية يدعمها النفط والحصول عليه يشبه الصعود إلى السماء
يشعر بذاته إلى حد الغرور لكننا نتقرب منه ونلمس رضاه.
يتسلق قممًا جبلية عالية فلا نتردد فى الصعود خلفه ولو رحنا نلهث.
يسقط فى الوحل شاحبا مريضا مدينا فلا نتخلى عنه.
ذلك الكائن الأسطورى الذى يأتى بالرخاء والفناء ويتقلب بين الصهد والبرد ويجمع بين الحلم والوهم هو الدولار الأمريكى أو «جرين باكس» الذى تجرى به (٨٣.٥٪) من المعاملات الاقتصادية الدولية رغم أن دولته عليها ديون تصل إلى ٢٧ تريليون (ألف مليار) دولار.
لم تعد تلك العملة التى تتحكم فى الدنيا كلها تثير اهتمام الحكومات والمصارف وكليات الاقتصاد ومؤسسات التمويل فقط وإنما أصبحت بطاقة هوية فى جيب أبسط فلاح فى الهند وأقل عامل فى جنوب إفريقيا وأفقر مربية أطفال إثيوبية تخدم فى «القطامية هايتس» وأرخص عاهرة روسية تبيع جسدها فى «مونت كارلو».
طبع الدولار أول مرة فى عام ١٧٩٢ بموجب قانون «الصك» الذى يعطى حامله الحق فى صرف قيمته ذهبا فلم يكن مسموحا بإصدار عملة ورقية دون أن يسندها ويغطيها ذلك المعدن الأصفر الثمين.
لكن ما أن اندلعت الحرب الأهلية الأمريكية بين الشمال والجنوب (عام ١٨٦١) حتى احتاجت الحكومة المركزية فى الشمال إلى مزيد من الأموال لتواصل القتال دون خسارة ما لديها من ذهب فطبعت فى العام التالى ٤٦١ مليون دولار غير مغطاة بالذهب وأجبرت الأسواق على التعامل به بعد أن جرم الكونجرس من يرفض التعامل به.
لكن التضخم الحارق الذى اجتاح الولايات المتحدة بعد سنوات الحرب أدى إلى انهيار الدولار فلم تترد الحكومة الفيدرالية فى العودة إلى قاعدة الذهب ولم تعد تطبع دولارا إلا إذا امتلكت قيمته ذهبا.
تكرر السيناريو مرة أخرى فى سنوات الكساد العظيم التى بدأت عام ١٩٢٩ حين ألغى الرئيس فرانكلين روزفلت تغطية الدولار بالذهب (عام ١٩٣٣) لكنه سرعان ما أعاده إلى ما هو عليه بعد شهور قليلة.
خرجت الولايات المتحدة من الحرب العالمية الثانية ساحقة بجيوشها وقنابلها النووية وعملتها القوية فى حين بدت أوروبا محطمة واليابان عاجزة والاتحاد السوفيتى منكفأ على ذاته فلم تترك القوى العظمى الجديدة الفرصة تضيع من يدها وراحت تضع أسس نظام اقتصادى عالمى يسمح لها بالسيطرة دون الحاجة إلى الجيوش المسلحة.
جمعت الولايات المتحدة ممثلين عن ٤٤ دولة فى فندق «مونت» وسط غابات بريتون وودز (ولاية نيو هامبشير) لمدة ٢ يوم (يوليو ١٩٤٤) ليخرجوا بقرار تأسيس «صندوق النقد الدولى» و«البنك الدولى للإنشاء والتعمير» واعتبار الدولار العملة التى تقوم بها التجارة الدولية طبقا لقاعدة الذهب على أن تساوى الأونصة ٣٥ دولارا.
كان الدولار الورقى مجرد وسيلة حسابية للتجارة بين الدول على أن تسدد الدولة المدينة ما عليها بالذهب الذى ينقل إلى الدولة الدائنة فى عملية مقاصة سنوية.
وبالقطع كانت الولايات المتحدة بحكم قوتها الاقتصادية والصناعية والتكنولوجية تصدر إلى الدول الأخرى أكثر مما تستورد ومن ثم فإن احتياطى الذهب لديها راح يتزايد حتى وصل إلى ثلاثة أرباع الذهب فى العالم.
عمل نظام «بريتون وودز» بكفاءة حتى استقرت الحسابات الدولية بالدولار الذى ثبت سعر صرفه وأصبحت العملات الأجنبية تقيم به.
لكن غطرسة القوة التى أصابتها فى سنوات الحرب الباردة بينها وبين الاتحاد السوفيتى ورطتها فى حروب ساخنة فى كوريا وفيتنام وأمريكا اللاتينية فأدارت ماكينات طبع الدولار دون غطاء الذهب وحدث ذلك سرا لسد العجز فى الموازنة العامة المتجاوزة ثلاثة تريليونات دولار.
على أن فرنسا شعرت بما حدث وطالب رئيسها الجنرال شارل ديجول فى عام ١٩٧١ تحويل ١٩١ مليون دولار فى البنك المركزى الأمريكى إلى ذهب عملا باتفاقية بريتون وودز التى تجبر الولايات المتحدة على ذلك.
لكن قبل أن تدبر الولايات المتحدة الذهب لفرنسا شمت دول أخرى رائحة الشياط وطالبت بصرف ما لديها من دولارات ذهبا ولم يكن الاحتياطى الأمريكى كافيا مما كشف التنكر الأمريكى لاتفاقية «بريتون وودز» وبدأ النظام المستقر يهتز مسببا فوضى فى المعاملات الدولية.
فى الوقت نفسه ارتفعت معدلات البطالة (٦.١٪) والتضخم (٥.٨٤٪) وانخفض التصدير بنسبة تقترب من عشرين فى المائة.
بعد ظهر يوم الجمعة ١٣ أغسطس ١٩٧١ اجتمع الرئيس ريتشارد نيكسون سرا مع وزير الخزانة جون كونالى ومدير بنك الاحتياطى الفيدرالى آرثر بيرنز و١٢ مستشارا فى البيت الأبيض وقرروا إلغاء قاعدة الذهب لمدة ٩٠ يوما وتقييد الاستيراد وتسريح نسبة من موظفى الحكومة المركزية وتجميد الأجور والأسعار ومراقبتها للمرة الأولى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
صيغت تلك الإجراءات فى القرار التنفيذى الرئاسى رقم (١١٦١٥) الذى وصف بـ «صدمة نيكسون».
لكن قبل أن يبحث العالم عن نظام بديل لحساب المعاملات الدولية بعيدا عن الدولار توصل هنرى كيسنجر وزير الخارجية الأمريكية فى ذلك الوقت إلى فكرة سياسية تضمن استمرار الطلب على الدولار رغم التخلى عن قاعدة الذهب.
استغل كيسنجر تهديدات شاه إيران لدول الخليج التى كان أغلبها يبدأ خطواته الأولى بعد الاستقلال عن بريطانيا ليعرض عليها الحماية الأمريكية مقابل ألا تبيع النفط إلا بالدولار وبموافقة السعودية على العرض أصبح نافذا وبتراجع الشاه عن تحركاته العدائية استقرت المنطقة طويلا.
ودون مبرر للاعتراض وافقت دول منظمة الأوبك (١١ عضوا تمتلك ٤٤٪ من الإنتاج و٨١٪ من الاحتياطى) على مبدأ التسعير بالدولار ولم تجرؤ الدول المنتجة الأخرى (مثل الاتحاد السوفيتى) على الاعتراض.
حافظ النفط على بقاء الدولار متربعا على قمة العملات بل إن زيادة أسعار النفط التى قفزت قفزات غير متوقعة بعد حرب أكتوبر زادت من الطلب على الدولار ومنحت الولايات المتحدة حقا مريبا فى طبع ما تريد منه دون أن يراجعها أحد بل أصبح من صلاحيات قادة الأساطيل (٦٠٠ سفينة حربية و٦٠٠ ألف ضابط وجندى) طبع ما يحتاجون من دولارات.
وبتلك الهيمنة فرضت الولايات المتحدة أن تمر الصفقات التجارية والتحويلات المالية العالمية عبر بنوكها بدعوى مراقبة أنشطة التنظيمات الإرهابية وعصابات غسل أموال الدعارة والمخدرات.
وأصبح الدولار العملة الاحتياطية فى مختلف دول العالم كما أصبح حرمان الدول من التعامل به وسيلة عقاب يفرضها الغرب على النظم والمؤسسات التى لا تستجيب لسياساته ويكفى القول إن هناك ٨٠٠٠ حصار على كيانات اقتصادية تؤثر فى ربع سكان الكرة الأرضية.
لكن التغيرات الحادة التى يشهدها النظام العالمى الذى بدأ فى تغيير جلده طرحت من جديد قضية سيطرة الدولار وكان السؤال: «كيف نتخلص منها؟» وطرح سؤال آخر: «هل نعود إلى قاعدة الذهب مرة أخرى؟».
أبرز تلك التغيرات: انسحاب الولايات المتحدة من الشرق الأوسط متخلية عن تعهدها بحماية أمن المنطقة رغم تزايد الخطر الإيرانى فلم لا تتخلى دول النفط هى الأخرى عن التزامها ببيع إنتاجها بالدولار؟ واحدة بواحدة والبادئ أظلم؟.
إن الاستهلاك اليومى للنفط لا يقل عن ٩٤ مليون برميل لتصل حجم تجاراته إلى ١.٧ تريليون دولار سنويا ولو تحولت نصف تجارته إلى عملات أخرى لعجز الدولار عن الصمود.
وحدث أن وقف العالم على قدم وساق عندما أعلنت السعودية بيع نسبة من نفطها بغير الدولار عبر النظام الصينى البديل للتحويلات البنكية (سويفت).
ومن جانبها أعلنت روسيا فى مواجهة العقوبات الغربية المفروضة عليها بيع النفط والغاز بالروبل ولا شك أن نصيب روسيا من سوق الطاقة مؤثر ويمكن أن يجرح الدولار جرحا غائرا ولكن الولايات المتحدة حصنته بمقاطعة الإنتاج الروسى والبحث عن بديل له.
ورغم أن الصين تقف وتترقب وتنتظر فإنها بقوتها الاقتصادية (الثانية بعد الولايات المتحدة) وباحتياطياتها العالية (٣.١٨٨ تريليون دولار) يمكنها إذا شاءت أن تكسر أسنان وأنياب الدولار ولكنها بحكمة حضارتها العريقة تؤمن بفضيلة الانتظار حتى تسقط الثمرة بنفسها.
وتسعى الصين إلى زيادة مخزونها من الذهب يوما بعد يوم وبكميات تصل أحيانا إلى ١٠٠ طن كما فعلت فى العام قبل الماضى ليرتفع رصيدها إلى ٢.١٤ مليون طن (٦٢.٤٥ مليون أونصة) لكن رغم ذلك لا تزال الولايات المتحدة تملك المخزون الأكبر من الذهب فى العالم (٨١٣٣.٤٧ طن) لتصل قيمة احتياطياتها إلى ٧١٢ مليار دولار.
وحجم الذهب فى العالم لا يتجاوز ١٧٠ ألف طن ولو شئنا الاكتفاء بها غطاء للدولار فإننا لن نجد أكثر من ٩ تريليونات دولار قابلة للتداول والمؤكد أن النقود المتداولة فى العالم أضعاف أضعاف ذلك المبلغ المتواضع ومن ثم فإن العودة إلى قاعدة الذهب كالعودة إلى الجمل فى عصر البوينج أو كالعودة إلى عصر الحمام الزاجل فى زمن الإنترنت.
سيظل الدولار على المدى القصير والمتوسط العملة الصعبة المفروضة على العالم ولن تقوم لدولة ما قائمة إلا إذا نجح اقتصادها فى اختيار الأنشطة التى تجلبه إليها.
ذات يوم قال لنا الدكتور رفعت المحجوب ونحن على مقاعد الدرس تحت قبة الجامعة: «الاقتصاد فى الدول النامية يعنى الدولار كلما حصلت عليه كلما صعدت إلى السماء».
ورغم مرور سنوات طوال لم تفقد الكلمات الغالية قيمتها.