بطرس دانيال يكتب: بناءُ الإنسان بناءٌ للعالم
يوصى السيد المسيح تلاميذه قائلًا: «سَمِعتُم أنه قيل: «أَحْبب قَريبكَ وأبغض عَدُوَّك». أما أنا فأقول لكم: أحِبُّوا أعداءَكم وباركوا لاعنيكم وصَلُّوا من أجل الذين يضطهدونكم» (متى5: 43-44). يدّعى الإنسان بأنه وصل إلى قمة التكنولوجيا والحضارة وزمن الاختراعات، ولكن فى ظل هذه كلها، تجرّد من معانٍ كثيرة، وأولها الحُب والحياة، حتى صار العالم بلا رحمة ولا شفقة ولا إنسانية. تحضرنى قصة من روائع الأدب العالمى للكاتب البرازيلى الشهير باولو كوبلو يروى فيها هكذا: كان الأب يحاول أن يقرأ الجريدة فى هدوءٍ وسكينة، ولكن ابنه الصغير لم يكف عن مضايقته، وعندما تَعِب الأب من شقاوة الطفل، قام بقطع ورقة من الصحيفة كانت تحتوى على خريطة للعالم، ثم مزّقها إلى قطعٍ صغيرة وقدّمها لابنه طالبًا منه إعادة تجميع الخريطة، وعاد لقراءة الجريدة، معتقدًا أن الطفل سيبقى منشغلًا طوال اليوم، إلا أنه لم تمر خمسة عشر دقيقة حتى عاد الابن إليه، بعد أن قام بترتيب الخريطة كاملة. فتساءل الأب مذهولًا: «هل كانت والدتك تعلّمك الجغرافيا؟» أجاب الطفل قائلًا: «لا، ولكن كانت هناك صورة لإنسانٍ على الوجه الآخر من الصفحة، وعندما أعدتُ بناء الإنسان، استطعتُ إعادة بناء العالم». إنه واجبٌ على كل واحدٍ منّا، أن يُعيد بناء الإنسان كما خلقه الله على صورته ومثاله فى المحبّة والسلام والنقاء والقداسة. لقد وهبنا الله العقل لاختراع سلاح الخير والبناء، لكن الشعوب تندفع للقتال والحروب فيما بينها دون سابق معرفة أو لقاء، كما أنها تنساق خلف الطاعة العمياء التى تدفعها لذلك. لقد استغل الإنسان ذكاءه ليتفنن فى اختراع الأسلحة والمعدّات المدمّرة ليستطيع بها القضاء على الآخر. مما لا شك فيه، أنه لا سبيل إلى قتل العداوة الكامنة بداخل الإنسان إلا بالحُب، فالبغض لا يولّد سوى الكراهية والحقد والانتقام، التى تدفع الإنسان للتخلّص من الغير، وعندما تتملّكنا هذه الرذائل، تصير كالسرطان الذى ينهش فينا، وينزع من داخلنا كل العواطف الإنسانية، وتشوّش شخصيتنا، وتشوّه كل ما نقوم به من أعمال وسلوك، لأنها تطبعها بختم الكراهية ورفض الآخر. لذلك يجب علينا أن نتخلّص من الظلام الذى يحاصرنا ويعمى قلوبنا، ونكتسب قبسًا من نور الشمس وشعلة الحُب التى تساعدنا على احتواء الجميع، وعدم الضرر بهم. إن الحُب هو أصل الإنسان كما خلقه الله، ومَنْ يُحب يتسلّح بقوة الحق والشجاعة فيما يقول ويفعل. لأن المحبة تمتلك قوة خارقة الطبيعة، يستطيع بها الإنسان أن يغيّر كل شيء للأفضل والأجمل والأنفع. بحيث ألا تكون محبتنا مشروطة أو مقيدة بمصالح شخصية أو تكون زمنية ومتقلّبة حسب أهوائنا. كم من المرات التى نحدد فيها الذين يستحقون محبتنا وأولئك المستبعدين؟ كم من الأشخاص الذين نُدرج اسمهم فى قائمة أصحاب النصيب للاهتمام بهم، مع رفض الباقين؟ لكنّ المحبة الحقيقية تدعونا ألا نستبعد أحدًا، لأن القريب بالنسبة لنا هو كل شخص نتقابل معه كل يوم وفى كل مكان، وفى هذه اللحظة ستصبح الأرض كلها فردوسًا نتنعم به، وستكتسب الحياة طعمًا مختلفًا وجديدًا ومذاقًا عذبًا. فالمحبة هى تاج جميع الفضائل، والله نبع المحبة يُحبنا جميعًا مهما كانت أخطاؤنا وضعفاتنا وعدم استحقاقنا، لكن الإنسان يضع حدودًا لمحبته، كما أنه من الممكن أن يتراجع عن محبة أشخاص كان يحبّهم فى الماضى أكثر من غيرهم. كم من محبة نقصت وتذبذبت وتلاشت بين الأزواج ومن المحتمل لأتفه الأسباب؟ بينما المحبة الحقّة سحر يسيطر على عقل الإنسان وكيانه من أجل شخصٍ آخر، إنها لحنٌ عذب، نستمع له حتى ننسى كل همومنا وتهدأ نفوسنا ونحيا فى سلام وطمأنينة. ودون المحبة يصير كل ما نفعله ونقوم به مملًا ومزعجًا، حتى أن الأعمال البسيطة التى لا تكلفنا جهدًا أو وقتًا أو مالًا؛ نراها شاقة ومميتة. ودون حُب تصبح الأسرة والأصدقاء والعمل والدراسة، عبئًا ثقيلًا لا يُحتمل، وواجبًا مفروضًا علينا يطاردنا نهارًا وليلًا. ولكن بالحُبّ يتحوّل كل شيء إلى سعادة وعذوبةٍ وجمال. اعتاد كل واحدٍ منّا أن يقول: «أنا أشعر بأننى أحب ذلك الشخص»؛ ولكن فى الواقع يجب أن يشعر الآخر بمحبتنا له، دون أن نصرّح بذلك، وهذا ما يفعله الآباء والأمهات الذين يحبّون أبناءهم دون الكلام أو الإعلان بذلك، فهم يثبتون ذلك من خلال التضحية والتفانى فى عملهم من أجل الأبناء. ونختم بكلمات الشاعر أحمد رامى: «الحُب كشجرة ورد، كلّما ذبلت زهرة انبثق برعم».