إبراهيم فتحي يكتب : تحولات العلاقة بين الدولتين المصرية والأميركية
منذ سبعينات القرن العشرين، حينما انتقل الرئيس المصري الراحل أنور السادات إلى الجانب الغربي في الحرب الباردة وعقد اتفاقية السلام مع إسرائيل، صارت الدولة المصرية صديقة لدولة الولايات المتحدة الأميركية، تربطهما علاقات وثيقة، واستمرت شريكاً استراتيجياً للولايات المتحدة أكثر من ثلاثة عقود، ومن بين أكبر متلقي دعمها العسكري والاقتصادي بعد إسرائيل رغم المسافة الشاسعة بين الدعمين. وكانت من أسس المصالح المشتركة محاربة الإرهاب وتنمية قيم دينية معتدلة ودعم السلام مع إسرائيل، فالتعاون بين الدولتين مفيد لكلتيهما. ولم يكن الرئيس حسني مبارك قادراً على مواصلة سياساته القمعية من دون تمتعه بمساندة أميركية، خصوصاً لتعاونه في تسلم الأسرى الإرهابيين من الولايات المتحدة «لاستجوابهم» بطرق لا يسمح بها القانون الأميركي.
كانت سياسة مبارك ثم سياسة محمد مرسي قائمة على إرضاء واشنطن قبل أي شيء آخر. وكانت العقبة سياسة واشنطن من مسألة النزاع الفلسطيني - الإسرائيلي. فبالرغم من أن بعض المسؤولين الأميركيين أعلنوا أن واشنطن لن تسمح بسباق تسلح في المنطقة، فقد سلحت إسرائيل تسليحاً كثيفاً جعلها متفوقة على العرب جميعاً، وكانت الولايات المتحدة تعمل جاهدة على تحويل الاهتمام في المنطقة العربية من النزاع العربي الإسرائيلي إلى اختلاق نزاع مع عدو آخر، كان التهديد الشيوعي في ما مضى ثم صار الآن الإرهاب الذي يرتدي قناعاً دينياً متطرفاً. وآمنت الولايات المتحدة إيماناً عميقاً مدة طويلة بتصور مؤداه أن مصلحتها في المنطقة سوف يحميها حلف أو تعاون ديني المظهر بين دولها يكون مضمونه معادياً لأي نظام اقتصادي غير النظام الذي ترتضيه أميركا، معادياً لليسار وللقومية العربية، ويظلّل تركيا وباكستان وبعض دول الخليج مع مصر. ومن المعروف أن الولايات المتحدة خرجت من الحرب العالمية الثانية ثم من الحرب الباردة وهي أغنى وأقوى دولة على الأرض. وزعمت دعايتها أن قواها العسكرية الهائلة المنتشرة في العالم كله تحقق للجميع الاستقرار والأمن وإقامة نظام تعددي مبني على الانتخابات النزيهة والأسواق المفتوحة. ولكن بعد الهجمة الإرهابية على المركز التجاري العالمي والبنتاغون واصلت الولايات المتحدة، أعظم قوة عسكرية في التاريخ سياسة لا يقيّدها القانون الدولي ولا أي ضوابط، مستعملة في تبريرها تعبيرات مضلّلة مغسولة مثل حرب وقائية، تغيير نظام استبدادي أو عدواني، الدفاع ضد محاربين غير قانونيين. وهناك اعتراف رسمي بوجود ما لا يقل عن 725 قاعدة عسكرية أميركية خارج الولايات المتحدة، وهناك أكثر منها وفق اتفاقات غير رسمية. وأعلن بعض الرؤساء استعداد أميركا لشن حرب وقائية على الإرهاب ضد ستين بلداً للدفاع عن حرية مواطنيها وأمنهم وقيمهم. فهي حرب شرعية وأخلاقية تحرّر النساء الأفغانيات من التشدد وتحمي أهل البوسنة وكوسوفا أو الأكراد العراقيين (ولكن ليس الأكراد الأتراك وليس الفلسطينيين) من حملات التطهير العرقي.
ونقفز إلى العلاقة بين الدولة المصرية ودولة الولايات المتحدة بعد موجة 30 حزيران (يونيو) الثورية في مصر التي شارك فيها 17 مليون مصري أو 33 مليون مصري وفق تقديرات مختلفة في تصويت رمزي يؤكد سحب الثقة من الدكتور مرسي ومطالبته بإجراء انتخابات رئاسية مبكرة. منذ البداية وقبل 30 حزيران (يونيو) لم تبد الولايات المتحدة تعاطفاً مع فكرة الحشد للاحتجاج الشعبي لسحب الثقة. ففي لقاء عُقد في مركز ابن خلدون في القاهرة قالت آن باترسون، السفيرة الأميركية في ذلك الوقت، إن حركة «تمرد» تشبه حركات في الولايات المتحدة وإن تلك الحركات تعبر عن إرادة الشعب وعلى الحكومات وصناع القرار أن تأخذها في الاعتبار. لكنها لم تر أن ديموقراطية الشارع هي الحل واعتبرت أن على الشعب المصري إن أراد أن يزيح مرسي عن الحكم أن يلجأ إلى الصندوق بعد انتهاء رئاسته. ومن المعروف أن مرسي رفض الاحتكام للصندوق بإجراء انتخابات مبكرة - أحد مطالب حركة «تمرد» التي وقّع عليها الملايين من الشعب المصري - قبل 30 حزيران (يونيو) وبعد الإنذار الذي وجهه الفريق السيسي لجميع الأطراف بضرورة التوصل إلى حل للأزمة. وفي تسريبات حديثة يقال إن مرسي خيِّر بين الانتخابات المبكرة أو التنحي لكنه رفض. ويشهد الجميع أن الأعداد التي نزلت إلى الشارع تفوق أعداد الذين نزلوا في أي وقت. وكان الكثيرون منهم قد صوّتوا لمرسي منذ عام، لا ثقة به ولكن لمنع وصول الفريق أحمد شفيق، رجل مبارك إلى السلطة. ولم يكن مرسي رئيساً لكل المصريين بل احتكرت جماعته سلطة أسوأ في ديكتاتوريتها من حكم مبارك. وكان جهاز أمن الإخوان مواصلاً لسياسة الخروج على القانون وخرق حقوق الإنسان، ووجهت الضربات الأمنية إلى نشطاء ثورة 25 يناير، بل مورس ضدهم أبشع أنواع التعذيب في تعارض صارخ مع ادعاءات الإخوان الأخلاقية. ولم يكن هناك حوار أو محاولة للتوافق، بل كان الإخوان يتركون الآخرين يتكلمون ويفعلون هم ما يشاءون. لقد كان الإخوان يؤسّسون دولة بوليسية تكبت المجتمع المدني ولم يتعرض لها الأميركيون بالتنديد.
وبعد عزل مرسي لجأ أنصاره إلى العنف وتدمير الممتلكات وإطلاق الرصاص وإشعال الحرائق ودعوا إلى الجهاد وزعموا أن الأوضاع لن تستقر إلا بحرب أهلية ضد «الكفار». لكن الولايات المتحدة مضت في شن الافتراءات على النظام الانتقالي في مصر، والتهديد بقطع المعونات العسكرية، وصدرت تصريحات متناقضة عن وزير خارجيتها عن طبيعة ما حدث في مصر وما إذا كان انقلاباً عسكرياً،على رغم أن القوات المسلحة آزرت حركة شعبية لا شك فيها. ومع الشعبية الكاسحة للقائد العام للقوات المسلحة الذي يعلن الالتزام بإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية في مواعيد محددة ويرفض أي اتجاه نحو حكم عسكري. لكن خطابات الاستهلاك المحلي للمسؤولين الأميركيين التي تستجيب للضغظ الإعلامي أو تضغط على النظام الانتقالي في مصر لمزيد من المكاسب والتنازلات قد لا تعكس الحقيقة، فالتعاون مع مصر يجلب لأميركا مكاسب أكثر مما تدفعه من مساعدات. وكما قال جيسون براونلي، الخبير في العلاقات المصرية الأميركية في جامعة تكساس: «يدرك العسكريون المصريون - على عكس الجمهور الأميركي - أن ما تحصل عليه الولايات المتحدة من تلك العلاقة أكثر مما تدفعه».
ولا تجد ادعـــاءات بعض أجهزة الإعلام الأميركية أنه لم تكن هناك ثورة في مصر أو أن فيها الآن حكماً عسكرياً ودولة بوليســية، آذاناً صاغية لدى أغلبية الشــعب المصري المؤيد للسيـــاسة الحــالية الساعية إلى استقلال مصـــر ورفض التبعية وتعميق التضامن العربي في المجالات كافة، وخصوصًا محاربة الإرهاب والتجارة بالدين. وتتعالى المطالبات الشعبية بتحقيق العدالة الاجتماعية التي طال إهمالها لاستكمال مسيرة ثورة 25 يناير.