رامي رشدي يكتب: “بن حنبل”.. إمام المتطرفين بالباطل
يختلط الأمر أحيانًا على البعض، فينسبون ما نراه من تشدد وتطرف فى وقتنا الراهن (خاصة من التيار السلفى) إلى نهج ورؤى الإمام أحمد بن حنبل، ويأتى الخلط عند الاعتماد على أفكار ابن تيمية وابن الجوزية، على أساس أنهما من مخرجات الفقه الحنبلى.
للإمام أحمد بن حنبل، الذى عاش فتنة خلق القرآن، أو «محنة الفقهاء» التى استمرت نحو ٣٠ سنة، وبدأها الخليفة العباسى المأمون باعتناقه مذهب الاعتزال، ثم حمله الناس على الاعتقاد بما ذهب إليه المعتزلة فى كون القرآن مخلوقا، وطلب المأمون من ولاته امتحان العلماء والقضاة، وسار على نهجه الخليفة المعتصم وتلاه الواثق، وبسبب تلك الفتنة قتل وجلد وعذب فقهاء وعلماء من أهل الحديث، اشتهر منهم الإمام أحمد بن حنبل، وأحمد بن نصر الخزاعى، والأخير قتله الخليفة الواثق بيده بتهمة عدم القول بخلق القرآن، وصُلب وعُلقت بجثته رقعة كتب عليها إدانته الطويلة التى بدأت بعبارة: هذا رأس المشرك الضال.
باختصار، جندت الدولة العباسية كل إمكانياتها الفكرية والمادية لمحاربة من يخالفون رأيها، لقد أرادت تطويع المجتمع والفقهاء.
رفض ابن حنبل القول بخلق القرآن، وبعدم خلق القرآن، واكتفى بالقول إنه كلام الله، وأضاف إن من قال بخلقه فهو «جهمي»، و«الجهمية» فرقة كلامية وافقت المعتزلة، وقال ابن حنبل أيضًا إن من قال غير مخلوق فهو «مبتدع».
واستند ابن حنبل إلى عدة اعتبارات:
أنه ليس من حق السلطة فرض مذهبًا عقائديًا على الناس.
لا يجوز فرض آراء كلامية فى غاية التعقيد على العامة.
مسألة خلق القرآن أو عدم خلقه ليست ذات أهمية كبيرة فى العقيدة، ولذلك لم يتحدث النبى عليه الصلاة والسلام فى شأنها ولا الصحابة أيضًا.
عاش الإمام أحمد بن حنبل فى عصر المأمون ثم المعتصم ثم الواثق ثم المتوكل، وكان بعيدًا عن الفلسفة وعن الاعتزال.
وفى سنة ٢١٨ هـ / ٨٣٣م أرسل المأمون رسالة إلى وإلى بغداد إسحاق بن إبراهيم يأمره فيه بجمع العلماء وإقناعهم بأن القرآن مخلوق، وأمره بأن يقطع رزق وجراية كل من لم يقتنع بهذا، ورفض علماء الدين الامتثال لمطلب المأمون، فما كان منه إلا أن أرسل رسالة ثانية لواليه فى بغداد بحبس كل من لم يمتثل.
ويذكر الطبرى أن بعض العلماء أجابوا الخليفة فى طلبه بأن القرآن مخلوق، إلا أربعة: أحمد بن حنبل، وسجادة، والقواريرى، ومحمد بن نوح المضروب، فأمر وإلى بغداد إسحاق بن إبراهيم فشدوا فى الحديد، فلما كان الغد دعا بهم يساقون بالحديد، فأعاد عليهم المحنة، فأجابه سجادة أن القرآن مخلوق، فأمر بإطلاق قيده وخلى سبيله، وأصر الآخرون على قولهم، فلما كان من بعد الغد عاودهم أيضًا، فأعاد عليهم القول، فأجاب القواريرى أن القرآن مخلوق، فأمر بإطلاق قيده، وخلى سبيله، وأصرا بن حنبل، ومحمد بن نوح على قولهما، فشدا فى الحديد.
وفى الطريق إلى السجن فى «طرسوس»، بلغهم وفاة المأمون وهم فى «الرقة»، فأعيدا وأودعا السجن ريثما تستقر الأمور.
ولما استقرت الأمور لـ «المعتصم»، جىء بابن حنبل وهو مقيد إلى القصر حيث كان ينتظره عدد من المعتزلة، منهم ابن أبى ذؤاد، لمناظرة علنية استمرت ثلاثة أيام، وكانوا فى شهر رمضان، وابن حنبل ثابت لا يتزعزع، حتى كان اليوم الرابع، فما كان من «المعتصم» إلا أن أمر بجلد ابن حنبل، ورغم ذلك ظل على موقفه.
بعد وفاة «المعتصم» تولى الخلافة «الواثق» الذى سار على نهج أسلافه، وجرت فى عهده محاولة للثورة عليه علم بها الإمام أحمد بن حنبل دون أن يشارك فيها، ولما فُضح أمر الثورة، ألقى القبض على البعض وهرب البعض الآخر، أما ابن حنبل فبقى مكانه.
بكل الأحوال، أدى الصراع الفكرى الحاد بين «المعتزلة» وابن حنبل، إلى نشوء تيار مضاد للمعتزلة، بدأ مع الخليفة المتوكل والخليفة القادر، ممن نهوا عن الكلام فى مذهب الاعتزال، فى وقت لقى فيه ابن حنبل تأييدًا كبيرًا من عامة المسلمين بسبب المحنة التى تعرض لها، فى حين وصفه خصومه بأنه متشدد، وإن كان ذلك نابعًا من غيرته وخوفه على الإسلام من انتشار أفكار المتكلمين والمعتزلة، وليس نابعًا من التشدد والغلو والتطرف الذى رأيناه خلال العقود الأخيرة.
ولا يجوز أن ننسب إلى الإمام أحمد ما أضافه تلاميذه وأتباعهم من تكفير، لقد غالى محبوه «حتى جعلوا محبته دليلًا على الإسلام وبغضه دليلًا على الكفر والزندقة»، ويُجمع عند دراسته ما فى كتب العقائد من بعض «الحنابلة» التى أضرت بالأمة، ومنها التكفير، والظلم، والغلو فى المشايخ، والشتم، والكذب، والقسوة فى المعاملة، والذم بالمحاسن، والأثر السيئ فى الجرح والتعديل، والتجسيم الصريح، أو التأويل بالباطل، وإرهاب المتسائلين، وتفضيل الكفار على المسلمين، وتفضيل الفسقة والظلمة على الصالحين، والمغالطة، والانتصار بالأساطير والأحلام، وتجويز قتل الخصوم، والإسرائيليات، والتناقض، والتقوّل على الخصوم، وزرع الكراهية الشديدة مع عدم معرفة حق المسلم، والأثر السيئ على العلاقات الاجتماعية، واستثارة العامة والغوغاء، والتزهيد من العودة للقرآن الكريم، مع المبالغة فى نشر أقوال العلماء الشاذة.
والمذهب الحنبلى أحد مذاهب المسلمين السنة، وقد اكتسب اسمه من مرجعه الإمام أحمد بن حنبل الذى كان فقهه يتسم بردة فعل اتسمت بالتحفظ، وربما التشدد مقابل المنهج العقلى المتنامى فى المجتمع الإسلامى، كما كان حاله مع المعتزلة، ويقتصر المذهب الحنبلى إلى جانب القرآن الكريم على أحاديث النبى محمد (صلى الله عليه وسلم) المروية من الصحابة الأوائل، أما مبدأ القياس الذى ابتكره أبو حنيفة فكان بادئ الأمر مرفوضًا، ولكن فيما بعد تم تطبيقه بعد تصنيفه إلى قياس صحيح وقياس مردود.
ويتسم الحنابلة بالتمسك الشديد بالماضى، ويتخذونه محورًا يتعبدون حسبه حتى فى بعض المسائل التى لم يحرم الإسلام تلاؤمها مع ظروف الزمان، بالإضافة إلى الفراسة التى وضحها ابن جوزية بكل تفصيل فى كتابه «الطرق الحكمية فى السياسة الشرعية».
أصبح المذهب الحنبلى من أسس التيارات المتشددة جدًا، وأصبحت آراء ابن تيمية هى التى يعتمد عليها السلفيون وقدوتهم محمد بن عبد الوهاب، مؤسس الوهابية.
ويمكن اعتبار الحنابلة الفئة الأقل عددًا بين المسلمين السنة، وينتشرون بشكل أساسى فى الجزيرة العربية وسوريا والعراق، مع ملاحظة أن أغلبهم يعتنق الوهابية أو الفقه الحنبلى، وقد مر مذهب الحنابلة كباقى المذاهب الفقهية.