عادل حمودة يكتب: الخليج يتجه شرقًا وإيران تتجه غربًا
الرئيس الصينى فى الرياض بعد شهر رمضان
الإمارات أول دولة خليجية تقيم علاقات استراتيجية مع بكين
بايدن يصف نائبته بالسيدة الأولى ويمنح إيران قنبلة نووية بعد عامين
خسرت دول النفط مليارات الدولارات عند انخفاض سعره فلم لا تعوضها مع ارتفاعه
سؤال تخشى أمريكا الإجابة عليه: لو طلب الخليج منها ما تطلبه منه هل كانت ستستجيب؟
لم تؤثر سلعة فى السياسة مثل النفط.
يغير خرائط التحالفات ويحرض على الانقلابات ويثير رغبة النظام العالمى للتغيرات.
بدا ذلك ساطعا فى حرب أكتوبر حين حجبه العرب عن الدنيا حتى آمنت بأنهم على حق فى تحرير أراضيهم وحتى لا يتجمد أهلها من البرد وتصاب مصانعها بالصدأ وتلطم خديها كأرملة مات زوجها تحت صقيع الجليد.
وضعنا تحالف «البندقية والبرميل» فى حالة سياسية استثنائية ومنحنا لحظات من النشوة القومية لا تحدث فى حياة الأمم إلا نادرا وأضأنا كل الشموع المطفأة فى النفس العربية ومسح الغبار المتراكم على وجوهنا وثيابنا وقلوبنا.
لكن سرعان ما أخذت الولايات المتحدة الحدث الطازج ووضعته فى ثلاجة ليصبح سمكة مجمدة وأخرجتنا من اللحظات المدهشة وأعلنت الخليج «محمية أمريكية» مهددة بصعق كل من يقترب منه أو يفكر فى المساس به.
ولم تتردد فى تلفيق قضية «تصنيع أسلحة كيميائية» لـ صدام حسين لتبرر غزو العراق والحصول على سائله الأسود.
ومن شاه إيران الذى أعلن نفسه شرطيا للخليج إلى آيات الله الذين غيروا الكلمات وحافظوا على الأهداف كانت تلك الحماية ضرورة للخليج بحكم تقارب الجغرافيا وتباعد السياسة.
على أن استرداد «التنين» الصينى لقوته المفقودة وأجنحته المكسورة وسطوته التجارية والعسكرية فرض على الرئيس «باراك أوباما» أن يتجه نحو الشرق الأقصى معطيا ظهره للشرق الأوسط (أو الأدنى) وهو يذهب بعيدا عنه فى وقت تصاعد فيه الخطر الإيرانى نوويا وبلاستينيا.
لم يتردد أوباما فى تغيير الاستراتيجية الأمريكية واضعا الصين وروسيا فى الصف الأول من أعدائها تاركا المنطقة تحت رحمة إيران مكتفيا بتوقيع اتفاق معها حول برنامجها النووى باركته أوروبا متناسية ترسانة الصواريخ بعيدة المدى التى تمتلكها طهران وتوزعها على حلفائها فى سوريا واليمن والعراق ليحاربوا نيابة عنها.
وجاء خليفته الديمقراطى جو بايدن ليزيد الطين بلة.
وصل إلى البيت الأبيض وهو على عتبة الثمانين ليدخل موسوعة جينس للأرقام القياسية باعتباره أكبر من تولى الرئاسة الأمريكية سنا.
ومهما كانت اللياقة الصحية والمتابعة الطبية فإن للزمن بصماته البدنية والنفسية التى تركها عليه.
سجلت الكاميرات سقوطه أكثر من مرة وهو يحاول صعود الطائرة الرئاسية (أير فورس وان) ما يعنى أن جسمه خانه.
لكن الأسوأ كان خيانة ذاكرته عندما وصف نائبته كاملا هاريس علنا بـ «السيدة الأولى».
على أنه ليس الأكبر سنا فقط وإنما الأقل تأثيرا أيضا.
ما أن جاء إلى الحكم حتى رفع البنتاجون الحماية عن غالبية المراكز الحيوية فى الخليج وسحب المنظومات الصاروخية الدفاعية ومعدات عسكرية ووحدات قتالية فى وقت استهدفت فيه صواريخ الحوثيين (الإيرانية) المنطقة بأسرها.
فى الوقت نفسه سعى إلى تجديد الاتفاق النووى مع إيران بعد أن أنكره وتنصل منه سلفه دونالد ترامب وعادت الوفود إلى مائدة التفاوض فى فيينا ــ منذ عشرة شهور ــ لتبدأ من نقطة مختلفة وصعبة اقتربت فيها إيران من معادلة تخصيب اليورانيوم التى تسبق تصنيع القنبلة النووية بخطوات محدودة.
بدت إيران فى المفاوضات متشددة ومماطلة ومتعسفة ولكن بايدن أوصى الوفد الأمريكى بالصبر فاستسلم لمشيئة الطرف الآخر ووافق على تأجيل التوقيع أكثر من مرة إلا أن اثنين من الوفد (هما ريتشارد نيفيو وأوربان تابا تاباى) لم يحتملا واستقالا.
لكن ما أن بدأت الحرب فى أوكرانيا حتى سعى جاهدا لتوقيع الاتفاق مستسلما للشروط الإيرانية فى مفاجأة سياسية من العيار الثقيل.
وافقت واشنطن على رفع الحرس الثورى الإيرانى من قائمة المنظمات الإرهابية وأفرجت عن أمواله المجمدة وألغت حظر دخول قياداته إلى أراضيها.
صدمت إسرائيل بالقرار وناشدت واحتجت واعترضت ولكن دون طائل.
والأهم أن واشنطن وافقت على تجميد البرنامج النووى الإيرانى عند المستوى المتقدم الذى وصل إليه دون إزالة عناصر الخطر منه ما يعنى أنها ستواصل بعد رحيل بايدن عن البيت الأبيض مشوارها نحو القنبلة النووية وفى الوقت نفسه سترفع عنها العقوبات لتعود إليها ملياراتها المجمدة لتطور بها صناعتها العسكرية ومنها طائرات الجيل الخامس.
ورغم تهديده بمعاقبة كل من يساند روسيا أو يخفف العقوبات المفروضة عليها بسبب الحرب فى أوكرانيا فإنه استثنى إيران من ذلك التهديد وأرسل تعهدا مكتوبا إلى بوتين يبيح له التجارة مع إيران إذا ما وافق على الاتفاق النووى مما أوقف تدهور الروبل.
سبب هذا الانقلاب الطاقة.
تنتج إيران ٣.٨ مليون برميل يوميا (٥٪ من استهلاك العالم) وتمتلك ١٥.٨٪ من احتياطيات الغاز فى العالم ورفع العقوبات عنها بعد توقيع الاتفاق النووى يزيد من إنتاج النفط والغاز بكميات تسمح بتخفيض الأسعار التى أشعلتها الحرب.
لكن وقف ٤٩ عضوا جمهوريا فى الكونجرس ضد الاتفاق ولو أدى إلى خفض سعر الوقود وانضم إليهم أعضاء ديمقراطيون واتفق الجميع على أن ما يدفع إليه بوتين «صفقة مع الشيطان».
وهنا نرصد انقلابا حادا لم نتوقعه.
انتقلت إيران من الجانب الروسى إلى الجانب الأمريكى.
على جانب آخر نجد الخليج يتحول من أمريكا إلى روسيا.
كان بايدن قد نسى على ما يبدو تجاهله لدول الخليج وسحب كثير من القوات الأمريكية منه فى وقت يتعرض فيه لتهديدات إقليمية كما أنه أوقف صفقات التسليح المتفق عليها إلى جانب تصريحاته المعادية ــ خلال حملته الرئاسية ــ ضد شخصيات عربية مؤثرة وفى الوقت نفسه تصور أنه إذا ما طلب منهم المساندة فى حربه ضد بوتين سيعودون ــ بحكم العشرة القديمة ــ إليه مرحبين متعاونين وفرحين.
لم يعد مستشاروه على أسماعه المثل الشائع: «من يقدم السبت يجد الأحد».
ولم يذكروا له أن الخليج تغير كثيرا وأصبح أكثر جرأة ولم يعد ليقبل بحلف مع الولايات المتحدة إلا إذا حقق مصالحه قبل مصالحها كما أنه بعد أن تركته كان عليه أن يغير من بوصلته الاستراتيجية.
والمؤكد أن الخلافات بين دول الخليج تلاشت وتوحدت كلمته وأصبح صوته من دماغه ولم يعد يعبأ بتحالف مع واشنطن أو باتفاقيات دفاعية معها بل يمكن القول إن العلاقات العربية العربية أصبحت أفضل مما كانت عليه وعادت حبات السبحة التى انفرطت لتتجمع فى خيط واحد مرة أخرى.
أراد بايدن ضرب الاقتصاد الروسى فى مقتل بمنع الدول الغربية من استيراد الطاقة منه والمعروف أن روسيا تصدر ٤٦ مليون طن من النفط والغاز شهريا بنسبة ٥٧ ٪ من صادراتها بقيمة تصل إلى ٤١٨ مليار دولار لكن المشكلة أن أوروبا تحصل على ٤٠ ٪ من حاجتها منه للتصنيع والتدفئة والبحث عن مصادر أخرى بعيدا عن روسيا أدى إلى رفع أسعار النفط والغاز إلى مستوى غير مسبوق مما يسبب مزيدًا من التضخم والكساد وضعف مستوى المعيشة لدول العالم مهما كان موقفها من الحرب سواء انحازت أو بقيت على الحياد.
أصبح الموقف فى يد الخليج.
إن السعودية والإمارات والعراق والكويت تنتج وحدها ٢٢ مليون برميل من النفط يوميا وتأتى قطر فى المرتبة الخامسة من قائمة الدول المنتجة للغاز والإمارات فى المرتبة السابعة عشرة تليها مصر.
وتؤكد هذه الأرقام درجة التأثير العالية التى يتمتع بها الخليج فى سوق الطاقة ما جعله عرضة لضغوط من الولايات المتحدة وبريطانيا ودول الاتحاد الأوروبى لزيادة الإنتاج لخفض السعر لكنه لم يستجب إليها وكأنه يبعث برسالة إلى بايدن قائلا: «إن الحرب فى أوكرانيا ليست حربنا» ردا على رسالته السابقة التى قال فيها: «إن الحرب فى اليمن ليست حربنا».
وبدا موقف الخليج متوافقا مع مصالحه.
لقد خسر الكثير من المليارات فى سنوات انخفض فيها السعر فلم لا يعوضها؟.
والسؤال الأهم: لو كانت الولايات المتحدة وأوروبا فى مكانه هل كانت ستنفذ ما يطلب منها؟.
لكن لا أحد توقف لطرح السؤال وتوالت الزيارات إلى الرياض وأبو ظبى لعلهما يستجيبان.
جاء رئيس وزراء بريطانيا بوريس جونسون إلى الإمارات والسعودية راجيا لكنه عاد إلى بلاده خالى الوفاض كما جاء.
ولوحظ أن مستقبله فى المطار كان نائب أمير الرياض وللحفاظ على ماء وجهه أعلن أنه عرض على السعودية تأسيس شركة لوقود الطائرات تتجاوز تكلفتها مليارات رغم أن مثل هذا العرض غير مناسب فى توقيت الأزمة.
وبدأ الحديث عن زيارة تالية لوزير الخارجية الأمريكية أنتونى بلينكن الذى يعد الرجل الثانى فى الإدارة بعد الرئيس.
سيأتى متأخرا بعد أن تغيرت المؤشرات والاتجاهات.
دعت الرياض الرئيس الصينى «شى جين بينج» لزيارتها بعد شهر «رمضان» وتتوقع «ميديا» أمريكية (منها صحيفة وول استريت جورنال) أن يحظى رجل بكين الأول بنفس الاستقبال الحار الذى قوبل به دونالد ترامب فى ٢٠ مايو ٢٠١٧ وشاهدت ذلك بنفسى خلال تغطية المؤتمر الذى عقده مع رؤساء دول عربية وإسلامية.
وكان الرئيس الصينى قد زار الإمارات يوم ١٩ يوليو ٢٠١٨ فى أول رحلة خارجية له بعد إعادة انتخابه ليؤسس بينها وبين بلاده أول علاقة استراتيجية مع دولة خليجية.
ولكن الولايات المتحدة المصابة بنرجسية سياسية مزمنة لم تتوقف لتستوعب التغير الواضح الذى طرأ على المنطقة.
والمثير للدهشة أن صحفا أمريكية (منها وول استريت جورنال) تتنبأ بأن دولا خليجية ستتعامل مع الصين وتبيع ربع نفطها باليوان ما يحرج الدولار ولو قليلا. ويصل حجم التجارة بين الجانبين إلى ١٨٠ مليار دولار بنسبة ٦٦٪ من حجم التجارة العربية مع الصين (حسب إحصائيات عام ٢٠٢٠).
وهناك رغبة ملحة لعقد قمة عربية صينية فى السعودية وجولات مباحثات بشأنها ولكن جائحة كورونا أجلتها فهل ستدعو الرياض إليها خلال زيارة بينج؟.
وبينما يتولى أمين عام الجامعة العربية السفير أحمد أبو الغيط الترتيبات والاتصالات نجد انقلابا آخر حدث فى الهند التى اشترت نفطا روسيا بسعر منخفض رغم أنها محسوبة على الدائرة الغربية فى آسيا.
إن تلك التحولات العربية والإيرانية والهندية الواضحة فى الاستراتيجية الدولية تعد جزءًا من التغيرات الحادة فى النظام الدولى بعد الحرب الروسية الأوكرانية.
لم يعد العالم بعدها مثل العالم قبلها.
ولكن هذه قصة أخرى.