بطرس دانيال يكتب: عمى الألوان
يخاطب داود النبى الله فى المزامير قائلًا: «كلمتك مصباحٌ لخُطاى ونورٌ لسبيلى» (مز١٠٥:١١٨). ذات يوم قام أحد الأشخاص بزيارة صديقه الرسّام الشهير، وكان عزيزًا على قلبه، ثم دار هذا الحوار بينهما: - «ما هذه القطع المعلّقة على الحامل، والتى أرى كلًا منها ذات لون مختلف وبديع؟» – فأجابه: «هل تثق فى كلامى؟ إنها أحجار كريمة صافية وباهظة الثمن!». «أتضع المجوهرات مع أدوات الرسم والألوان على الحامل نفسه»؟ – «ليس فى هذا ما يدعو للعجب، وسأوضح لك الأمر. كما نعلم جميعًا، فإن مواد الألوان تتأثر وتبهت تدريجيًا مع مرور الوقت، لأنه من السهل ألا اكتشف هذا مع تكرار استخدامى لها، لذا وضعتُ أمامى هذه الأحجار الثمينة، لكى أنظر إلى ألوانها الأصلية الثابتة، حيث إنها لا تتغير أبدًا نتيجة مرور الزمن أو عوامل الطبيعة. وعندما أنظر إليها فى كل حين، تتعود عيناى على ألوانها الأصلية، فلا تنخدع بغيرها». إذًا نحن بحاجةٍ مثل هذا الفنان العبقرى إلى حماية عيوننا من أشياءٍ كثيرة، قد تتغيّر وتتبدّل، ونتخذ الحذر من بعض الناس الذين نتعامل معهم، فمن المؤكد أنهم يغيّرون جلدهم ورأيهم نتيجة مصالحهم الشخصية، حتى ولو كان على حساب تربيتهم ومبادئهم. كما أنه من المحتمل أن يتغيّر تدريجيًا تقديرنا للأمور التى تواجهنا، فلا نعود أن نرى الأسود أسودًا ولا الأبيض أبيضًا، ولا نستطيع أن نفرّق بين الخطأ والصواب كما تعلّمنا الكتب المقدسة، ويصل بنا الحال إلى رؤية الألوان حسب ما تبدو للعالم المادى. علاوة على ذلك، فمن الطبيعى أن الروتين فى حياتنا لا يجعلنا نرى الأشخاص والأشياء على حقيقتهم كما كانوا من قبل، وتتغيّر معاملاتنا معهم. كم من الأشخاص الذين أصابهم الفتور والملل فى محبتهم وعلاقتهم بالغير؟ ويرجع ذلك إلى تأثرهم الواضح من ألوان المادة والمصالح الذاتية. وعندما ننظر إلى الألوان كما تبدو للعالم المتغيّر فى مواقفه ومبادئه؛ سننخدع كثيرًا ونقع فى ضلال محتوم. فالعالم يطلق على الحيل البشرية الماكرة والتى يدمّر بها الآخرين، حكمة مطلوبة فى هذا الوقت. ونجد بعض الأشخاص الذين يختلقون القصص الوهمية والكاذبة للنجاة من المواقف المحرجة، ويطلقون عليها كذبة بيضاء لا ضرر منها. وهناك بعض الناس الذين يقعون فى لذاتهم وشهواتهم، وينظرون إلى الميول العاطفية الخالية من البذل وتقدير المسئولية، على أنها محبة حقيقية لا عيب فيها. وهناك من يضيّع ماله ووقته فى أماكن مشبوهة، ويعتبرها تسلية بريئة أو مجاملة تفرضها المحبة فى بعض المناسبات. لذا يجب علينا أن نحترس من اللون الأبيض كما يقدّمونه لنا بعض الأشخاص الذين لا علاقة لهم بوصايا الله والتعاليم المقدسة، حتى لا نقع فى خطر التأثر برؤية هذا اللون المزيّف. كم هؤلاء الذين خدعونا فى رؤية الألوان على طبيعتها، أى تقدير الأمور على حقيقتها؟ وكم من الأشخاص الذين قاموا بتبرير ما يقومون به من تجاوزات وشر، ويقنعوننا بالتشبّه بهم، ثم نُصاب بعمى الألوان مثلهم؟ إذًا يجب علينا أن نتعلّم من هذا الرسّام وننظر دائمًا إلى اللون الأبيض النقى الذى لا يتغيّر أبدًا، لنرفع عيوننا إلى الله غير المتغيّر، ونلتجىء إلى وصاياه التى منحنا إياها فى كتبه المقدسة، ونفتح له قلوبنا فى كل حين. وبهذا يُنير أذهاننا ويضىء عيوننا لنرى الأمور كما يراها هو دائمًا، ولن يستطيع العالم المادى التأثير على رؤيتنا أو يخدعنا، ولن يصيبنا بعمى الألوان. ومِنْ ثَمَّ نستطيع أن نُحَكّم المنطق والوجدان، ولَن ننظر إلى ما يناقض تعاليم معتقداتنا الدينية أو أصول تربيتنا. كما يجب أن نحذر من تصديق الألوان التى يخدعنا بها البعض، ولنحذر من تصديق كل ما نقرأ أو نسمع كأنه موحى به من السماء، بل يجب أن نُعمل الفكر مليًّا حتى لا نحيد عن الحقيقة. وعندما يتعذّر علينا تمحيص الحق من الباطل، نُسرع باللجوء إلى من نثق بصدقه وأخلاقه وخبرته. وبهذا نستطيع الاحتفاظ بشخصيتنا كاملة مستقلة، بدلًا من أن نتركها كريشةٍ فى مهب الريح، يتلاعب بها أصحاب الأغراض وأرباب الدعاية. فنحن بحاجةٍ إلى النور الداخلى الذى يساعدنا على تمييز الألوان الصحيحة، ومعرفة الخير والشر، فنرى عظمة وسمو الأعمال التى نقوم بها إكرامًا لله، وفى الوقت نفسه نُدرك فظاعة أقل الهفوات التى نهين بها الجلال الإلهى. فالحنين إلى فوق هو عنصر إلهى يدلّ على أصل الإنسان، المخلوق على صورة الله ومثاله. ونختم بالقاعدة الذهبية: «قُلْ لى من تُعاشر؛ أقُل لك مَنْ أنت».