الراعي من القاهرة: في وسط الظروف الصعبة نحتاج للاصغاء لكلمة الله
ينشر المركز الماروني اللبناني للثقافة والأعلام بالقاهرة، نص عظة غبطة البطريرك مار بشاره بطرس الرَّاعي والتي ألقاها مساء اليوم في كاتدرائيّة القدّيس يوسف-القاهرة (الظاهر):
"يا يوسف، لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك" ( متى 1: 20)
1.عندما كشف الملاك في الحلم ليوسف عن سرّ حبل مريم، وأكّد له دوره في تصميم الخلاص، بأنّه زوج مريم، والأب المربّي ليسوع بالشريعة، تبدّل الخوف إلى شجاعة. فتولّى خدمة الكنزين: مريم امرأته البتول، ويسوع الموكول إلى عنايته. فحمى مريم من الألسن الخبيثة، وحمى الطفل يسوع من شرّ هيرودس. شجاعنه طاعة دائمة لصوت الله، وطاقة خلّاقة في كلّ ظروف طفولة يسوع.
في الظرف المخيف المحدق بنا من كلّ جانب، في لبنان، والشرق الأوسط والحرب في أوكرانيا، نحن بحاجة إلى الإصغاء لصوت الله لكي يبدّل خوفنا إلى شجاعة خلّاقة. فكما من خلال قلق يوسف وضيق نفسه مرّت إرادة الله ومشروعه الخلاصيّ، هكذا يتمّ معنا أيضًا. فيعلّمنا يوسف أن نؤمن بالله، وبعمله من خلال مخاوفنا، وسرعة عطبنا، وضعفنا. ويعلّمنا، في وسط عاصفة الحياة، ألّا نخاف من تسليم الله دفّة سفينتنا. فنظرة الله هي دائمًا أكبر من نظرتنا (راجع البابا فرنسيس: الرسالة الرسوليّة Patris Corde في 8 كانون الأوّل 2020، عدد 2).
2. يسعدني أن نحتفل معكم بعيد القدّيس يوسف شفيع هذه الكاتدرائيّة والمدارس المارونيّة الحاملة إسمه هنا في الظاهر، بدعوة كريمة من سيادة أخينا المطران جورج شيحان، راعي الأبرشيّة الغيور. فأقدّم له وللكهنة ولكم جميعًا التهاني القلبيّة مع أطيب التمنيات والتماس النعم والبركات السماويّة بشفاعة القدّيس يوسف البتول.
وإنّا نفتتح بهذه الليتورجيا الإلهيّة زيارة راعويّة تدوم حتى الأربعاء المقبل، وفق برنامج وضعه سيادة راعي الأبرشيّة. وأُسعدت ظهر اليوم بزيارة قداسة البابا تواضروس الثاني في المقرّ البابويّ بالعبّاسيّة، وكانت خير بداية.
3. إنّنا في هذا العيد نجلس في مدرسة القدّيس يوسف الذي تسمّيه الكنيسة: يوسف المربّي، يوسف صاحب الدور المحوريّ في تاريخ الخلاص، وجامع العهدين القديم والجديد، يوسف شفيع العمّال، يوسف حامي المعوزين والبؤساء والمتألّمين والفقراء، يوسف حارس الفادي، يوسف شفيع الكنيسة الجامعة التي هي جسده السرّي، يوسف شفيع المنازعين والميتة الصالحة. إنّه يعلّمنا الكثير الكثير بشخصيّته الصامتة، وأفعاله الناطقة.
في الرسالة الرسوليّة “Patris Corde” التي وجّهها قداسة البابا بمناسبة مرور 150 سنة على إعلان القديس يوسف "شفعيًا للكنيسة الجامعة" (8 كانون الأول 2020). أطلق على أبوّة القدّيس يوسف سبعة أوصاف.
1) هو أب محبوب
لأنّه جعل من حياته خدمة وتضحية في سبيل تصميم الخلاص بكامله. فأحبّه الشعب المسيحيّ، ووضع فيه كامل ثقته، ويلجأ إليه في كلّ ظروف الحياة، بشعار: "إذهبوا إلى يوسف" (تك 41: 55).
2) وهو أب حنون
شمل بحنانه يسوع الذّي كان ينمو تحت نظره "بالحكمة والقامة والنعمة أمام الله والناس" (لو 2: 52). في مدرسة يوسف تعلّم يسوع الحنان والشفقة على الجموع والمرضى والبؤساء الذين كانوا يقصدونه. الحنان فضيلة أساسيّة لأنسة قلب الإنسان.
3) وهو أب مطيع
فعل كما كان يأمره الملاك في كلّ حلم من الأحلام الأربعة بشأن الطفل يسوع وأمّه: إزالة قلق يوسف وخوفه؛ الهرب إلى مصر من وجه هيرودس المصمّم على قتل الطفل؛ العودة إلى أرض إسرائيل؛ التوجّه إلى الجليل واستيطان الناصرة. من طاعة يوسف تعلّم يسوع الطاعة لأبيه وأمّه، وإتمام إرادة الآب.
4) وهو أب يستقبل
إستقبل مريم امرأته في بيته من دون شروط، عملًا بأمر الملاك. إنّ نبل قلبه أخضع للمحبّة ما تعلّمه من الشريعة. فوضع جانبًا أفكاره ليترك المجال لما يجري، وفقًا لإرادة الله.
5) وهو أب ذو شجاعة خلّاقة
هكذا ظهر في كيفيّة تصرّفه في بيت لحم لتأمين مكان لولادة يسوع، وفي مصر حيث تدبّر العمل لتأمين وسيلة العيش لعائلته، وفي الناصرة بإيجاد مهنة نجّار هو ويسوع.
6) وهو أب عامل
عُرف في محيطه بأنّه "يوسف النجّار"، وعُرف يسوع بأنّه "إبن النجّار". لقد قدّسا العمل، وتقدّسا به. هذه هي كرامة العمل، ومنه كرامة العمّال. فالعمل مشاركة في عمل الخالق الخلاصيّ، وتنمية للقدرات الشخصيّة والصفات الخاصّة الموضوعة في خدمة المجتمع والشركة بين البشر؛ والعمل هو تحقيق نواة المجتمع الأساسيّة التي هي العائلة. فالعائلة التي تخلو من العمل معرّضة للمصاعب والتوترات والإنكسار والتفكّك.
7) وأخيرًا لا آخرًأ: هو أب في الظلّ
كان بالنسبة ليسوع ظلّ أبيه السماويّ: حماه، حرسه، وتبع خطاه. لا تقف الأبوّة عند حدود إعطاء ولد للعالم، بل تقتضي مسؤوليّة العناية به. كلّ من يتولّى مسؤوليّة حياة شخص آخر، إنّما يمارس نوعًا ما الأبوّة نحوه. هكذا المعلّم والمربّي والكاهن زالأسقف. الكنيسة بحاجة إلى آباء. الأبوّة تعني إدخال الإبن في اختبار الحياة، وفي واقعها. الأبوّة الحقيقيّة ترفض تملّك الإبن وأسره، بل تقتضي جعله قادرًا على الخيارات والحريّة والذهاب. هكذا أحبّ يوسف حبًّا حرًّا خارقًا مريم ويسوع، واضعًا إيّاهما في الوسط.
4. من مضامين هذه الزيارة الراعويّة وجه تربويّ وكنسيّ وثقافيّ ورسميّ. تربويًّا، نفتتح قاعة الخورأسقف يوحنّا طعمه في حرم مدارس القدّيس يوسف المارونيّة. وفي وقت لاحق يتمّ تخريج أوائل هذه المدارس. وكنسيًّا نفتتح قاعة المكرّم البطريرك الياس الحويّك، واضع أساسات أبرشيّتنا في مصر والسودان، ونوقّع الكتاب الخاص بهذه الأساسات لمؤلّفه عزيزنا الخوري مخائيل قنبر. ونتذكر كلّ الموآزرين والكهنة والرهبان المريميّين وإعلاء البناء مع المطارنة السبعة الذين تعاقبوا على رعاية الأبرشيّة، وصولًا إلى سيادة راعيها الحالي؛ ثمّ الإحتفال بقدّاس يوبيل الخمسين سنة على تأسيس كابلّة القديسة ريتا في مصر الجديدة كما نزور السلطات الكنسيّة المحليّة. وثقافيًّا، نستذكر محطّات الوجود المارونيّ في مصر، والكنائس المارونيّة القديمة؛ رسميًّا، سيكون لنا لقاء مع فخامة رئيس الجمهورية السيد عبد الفتاح السيسي ومع أمين عام جامعة الدول العربيّة، ومع سماحة شيخ الأزهر الإمام الكبير أحمد الطيّب.
5. نحن الموارنة، مع غيرنا من اللبنانيين الذين أمّوا الديار المصريّة، نفاخر بالدور الثقافيّ والإقتصاديّ والإنمائيّ الذي ساهمنا به في إنماء في مصر المشعّة بمثل هذا الدور. كما نفتخر بما لنا من دور في النهضة الأدبيّة واللغويّة والإعلاميّة في هذه البلاد العريقة. هذا الدور مبنيّ على أساس متين قامت عليه علاقاتنا مع الشعب المصريّ النبيل منذ القديم، إذ كان بارزًا على المستوى الفني والهندسيّ والتجاريّ والإقتصاديّ. نرجو استمراره في ايامنا. وكان استيطان الموارنة المنظّم راعويًّا وروحيًّا في أرض مصر المضيافة في أوائل القرن الثامن عشر. فتبعهم رعاتهم الروحيّون، وكان أوّلهم الراهب المارونيّ المريميّ (قديمًا اللبنانيّ الحلبيّ) الأب موسى هيلانه وتحديدًا سنة 1745، مع تأسيس أوّل كنيسة ورعيّة، وهي كنيسة البارجة في دمياط. وراحت الرسالة تكبر وتكبر حتى أصحبت أبرشيّة كاملة الكيان والمؤسّسات.
6. إنّ مصر ولبنان مدعوّان اليوم، بحكم موقعهما على حوض الشرقيّ للبحر الأبيض المتوسّط، ليواصلا دور الجسر الحضاريّ والثقافيّ والإقتصاديّ والسياسيّ بين الشرق والغرب، في زمن التوترات والحروب. فلهما دور خاص في إحلال الإستقرار، وتعزيز السلام والحوار والعيش معًا، والدفاع عن حقوق الإنسان والشعوب في قلب الأسرة العربيّة.
7. إنّا في عيد القدّيس يوسف شفيع هذه الكاتدرائيّة ومدارس الظاهر المارونيّة نلتمس شفاعته لكي نربّي الأجيال الجديدة على هذا الدور الحضاريّ، في الأسرة المدرسيّة والعائليّة والإجتماعيّة والوطنيّة، تمجيدًا للآب السماويّ والإبن الوحيد والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.