د. نصار عبدالله يكتب: عندما أصبح المسيح إلها
عن دار «بيت الياسمين» بالقاهرة، صدرت منذ أيام الترجمة العربية لكتاب ريتشارد روبنشتاين: «عندما أصبح المسيح إلها»، والذى يحمل عنوانا فرعيا هو: «قصة الصراع من أجل تحديد مفهوم المسيحية فى الأيام الأخيرة للإمبراطورية الرومانية»، وقد قام بالترجمة الدكتور أسامة عبدالحق نصار الأستاذ بجامعة أسيوط، بينما شرف بالمراجعة كاتب هذه السطور الذى يشارك المترجم الرأى فى أن هذا الكتاب لا غنى عنه لكل قارئ ينشد أن يتعرف على الحقائق التاريخية من وجهة نظر حاول صاحبها أن يكون أمينا ومحايدا وموضوعيا إلى أقصى حد تسمح به طبيعة موضوع كهذا الموضوع الذى يصعب على الكثيرين أن يتناولوه تناولا غير منحاز إلى عقيدة بعينها أو إلى مذهب بذاته غير أن المؤلف قد التزم المنهج العلمى فى البحث ما وسعه إلى ذلك سبيلا، واعتمد فى كتابته على العديد من المراجع والمصادر التى أتاحتها له مكتبات جامعات كبرى بدءا من مكتبة جامعة برنستون الأمريكية التى عمل أستاذا بها، ومرورا بجامعة إكس بروفانس الفرنسية، وانتهاء إلى جامعة مالطا التى عمل بها أستاذا زائرا. ورغم الدقة العلمية التى يتسم بها هذا الكتاب إلا أنه فى الوقت ذاته يتسم بقدر كبير من الجاذبية التى تجعل من قراءته نوعا من المتعة بالإضافة إلى كونها نوعا من الزاد الثقافى والمعرفى، وللتدليل على هذه الميزة الأخيرة فإننا نقدم للقارئ فيما يأتى جزءا من سطور الترجمة العربية.
«فى الوقت الذى استطاعت فيه الجماهير الغاضبة تحطيم أبواب السجن واقتحامه، كانت أعدادهم قد تزايدت إلى درجة كبيرة،. اندفعوا من الميدان كما لو كانوا ماء يتدفق من إناء ممتلئ فى جميع الاتجاهات.. حتى بالنسبة لمدينة مثل الإسكندرية التى كان العنف والشغب أمرا معتادا بها تماما كهبوب العواصف فى البحر الأبيض المتوسط، فإن تلك المظاهرة كانت أكبر من المعتاد. وأغرب من هذا، فإن تلك الجماهير الغاضبة كانت تشكل جبهة واحدة. وبدلًا من الاقتتال المعتاد بين بعضهم البعض، كان الوثنيون والمسيحيون متحدين فى مطالبتهم بالدم!!
استقبلت الحشود الغاضبة تحطيم البوابات الخشبية بصيحات الاستحسان. ولم تمر سوى دقائق معدودة حتى عاد مقتحمو السجن للظهور مرة أخرى فى الميدان، ولكن هذه المرة حاملين ضحاياهم على أكتافهم، كما لو كانوا صيادين عائدين من رحلة صيد فى الصحراء حاملين ما غنمته أيديهم فوق أكتافهم. كان الضحايا ثلاثة مساجين مازالت أيديهم وأرجلهم مكبلة بالأصفاد خشية احتمال هروبهم. وبينما واصل المتظاهرون الغاضبون دفعهم إلى ساحة الميدان كما لو كانوا مجرد دمى، راح هؤلاء المساكين الثلاثة يطلقون صيحات الألم والرعب.
اثنان من هؤلاٍء البؤساء كانا من شاغلى المناصب الحكومية العليا، وقد نالا حنق الحشود الغاضبة لدورهما فى تنفيذ أوامر الإمبراطورية الرومانية خاصة ما يتعلق منها بإغلاق المعابد الوثنية، ونفى «الهراطقة» المخالفين للعقيدة المسيحية كما أقرتها الكنيسة الرسمية،. لكن هؤلاء المسئولين لم يكونوا هم الهدف الرئيسى للغوغاء الذين انصب جام غضبهم على السجين الثالث المقيد فى أصفاده، والذى كان يشغل مكانة أكبر بكثير من مكانة أى موظف مدنى.
كان السجين الثالث هو جورج الكبادوكى، أسقف الإسكندرية والرئيس الأعلى للمجتمع المسيحى المصرى.
كان جورج الكبادوكى يدين بالفضل للمكانة الكبيرة التى يتبوؤها، وفى الوقت ذاته للعذاب الأليم الذى يتجرعه الآن، إلى الإمبراطور قسطنطيوس الثانى ابن الإمبراطور الرومانى قسطنطين الكبير أول إمبراطور مسيحى للإمبراطورية الرومانية وخليفته فى الحكم. فقد كان قسطنطيوس وجورج الكبادوكى كلاهما يشتركان فى كونهما من أتباع المذهب الآريوسى، هذا المذهب القائل بأن المسيح هو ابن الله ولكنه ليس إلها فى حد ذاته.