كلمة أبو الغيط أمام كلية الدفاع الوطني بسلطنة عُمان

عربي ودولي

بوابة الفجر

ألقى السيد أحمد أبو الغيط أمين عام جامعة الدول العربية، كلمة أمام كلية الدفاع الوطني بسلطنة عُمان
تحت عنوان "المتغيرات الإقليمية والدولية وأثرها على العمل العربي المشترك".

وقال أبوالغيط: “أود في البداية أن أعرب عن سعادتي الكبيرة بالتواجد بينكم اليوم.. في سلطنة عمان، وفي كلية الدفاع الوطني، للعام الرابع.. ولدي، كما تعلمون، تقدير كبير للمؤسسات العسكرية العربية ودورِها الهام في البناء الوطني والتحديث.. وللمؤسسة العسكرية العُمانية بالخصوص مكانٌ في القلب، إذ أنظر بإعجاب إلى حرصها الدؤوب على بناء وعي ثقافي واستراتيجي لدى أبنائها ومنتسبيها... وهو ما يُمثل ضرورة لا غِنى عنها في عصر تعددت قضاياه، وتشابكت تفاعلاته، وتسارع إيقاعه، على نحو غير مسبوق". 
وأضاف: "وحديثي اليوم سيكون محاولةً لرصد جوانب التحول في النظام الدولي الذي يمر بمرحلة حرجة ودقيقة.. وانعكاس ذلك على الإقليم.. وعلى العالم العربي على وجه الخصوص.
والحقيقة أننا نشهد اليوم لحظة نادرة في تاريخ النظام الدولي كما عهدناه منذ أكثر من سبعة عقود.. تأسس هذا النظام، كما نعرف جميعًا، في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وبهدفٍ رئيسي هو منع نشوب نزاع جديد على هذا النحو المدمر.. ولعبت الولايات المتحدة، التي تمتعت ساعتها بلحظة تفوق وهيمنة غير مسبوقة مع 50% من الناتج الإجمالي العالمي و75% من الإنفاق العسكري.. أقول: لعبت دورًا حاسمًا في تشكيل النظام الجديد، ومؤسساته... سواء الأمم المتحدة أو البنك الدولي وصندوق النقد".
وتابع أن أي نظام دولي ينهض على توازن معين للقوى التي تتربع على قمته.. وأيضًا على مبادئ وتقاليد تحكم العلاقات بين هذه القوى... والنظام الدولي، الذي أسسه المنتصرون في الحرب العالمية الثانية بزعامة أمريكا، قامت أركانه على مبدأ جوهري هو عدم جواز الاستيلاء على الأرض بالقوة، باعتبار أن الاعتداء على هذا المبدأ كان ما أدى إلى انزلاق العالم نحو الحرب بسبب طموحات ألمانيا واليابان نحو التوسع الإقليمي.. وانطلق النظام الدولي أيضًا من فرضية جوهرية هي أن الدول ليست متساوية.. وأن لبعضها امتيازات تفوق الأخرى.. وهو ما يُجسده نظام مجلس الأمن الذي يضم خمس دول فقط لها حق النقض... هذه الدول، وفي مقدمتها الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، أوكل لها مهمة الشرطي الذي يقوم على "حفظ النظام" – إن جاز لنا التعبير.
والحقيقة أن هذا النظام الدولي، وبرغم ما شهده من تنافس بين قطبيه في زمن الحرب الباردة، قد أسهم في تعزيز درجة معقولة من السلم الدولي في العالم عبر عقود.. وليس أدل على ذلك من تراجع ظاهرة الغزو العسكري والاستيلاء على الأرض بالقوة.. التي لم تحدث سوى في حالات معدودة، ربما كان أبرزها العدوان الإسرائيلي على الأراضي العربية.
وقد قام هذا النظام الدولي أيضًا على التوازن بين القوى الكبرى، وعلى امتلاك هذه القوى للسلاح النووي الذي شكل رادعًا متبادلًا منع اندلاع الحرب الشاملة فيما بينها.. واستمد النظام قوته من قدرة القطب المهيمن -أي الولايات المتحدة- على الاستمرار على قمته، ضابطًا لتفاعلاته، رادعًا لمحاولات تحدي قواعده.. كما حدث، مثلًا، في حالة العدوان العراقي على الكويت.
غير أن الناظر إلى الوضع الدولي الآن يُدرك كم تغيرت الأسس التي قام عليها منذ سبعة عقود.. فالواضح أن لحظة الهيمنة الأمريكية المطلقة تُشارف على نهايتها.. فما نشهده اليوم هو حالة "انتشار للقوة" على مساحة أوسع.. إذا لم يعد القرار الدولي مُحتكرًا في يد قوة واحدة، وإنما موزع على عدد أكبر من القوى الدولية... ولم تعد الإمكانيات الاقتصادية والتكنولوجية محصورة في القلة، وإنما صارت أيضًا أكثر انتشارًا من ذي قبل. 
نحن إذن أمام توازن جديد يتشكل في عالمنا... هذا التوازن قد يقود إلى نظام مختلف غير ذلك الذي عهدناه خلال العقود المنصرمة.. وقد يؤدي أيضًا إلى حالة من اللانظام والفوضى أي غياب القواعد الناظمة للعلاقات بين القوى الكبرى.. لذلك أقول إننا في لحظة نادرة تحمل من الأسئلة المركبة أكثر مما تقدم من الإجابات الحاسمة... حيث يظل المستقبل مفتوحًا على سيناريوهات مختلفة لا يُمكن الجزمُ بتحقق واحدٍ منها.
هناك -أولًا- سيناريو الصراع والتنافس الذي نشهد ملامحه وبوادره اليوم، حيث تسعى قوة صاعدة هي الصين، إلى تحدي القوة المهيمنة، وهي الولايات المتحدة.. وبينهما قوة أخرى تعود لتفرض وجودها على الساحة الدولية هي روسيا... وكما نعرف من تاريخ العلاقات الدولية، فإن القوة المهيمنة تسعى دائمًا إلى احتواء وتطويق القوة الصاعدة، وربما إعاقة صعودها. 
إن الولايات المتحدة ما زالت تتمتع بالسبق، وبمسافة كبيرة، في مصادر القوة المختلفة.. العسكرية والاقتصادية والقوة الناعمة- أي القوة الثقافية وجاذبية النموذج.. ولا توجد دولة في العالم تُكافئ هذا المزيج المتنوع.. غير أن ثمة عاملًا مهمًا في حسابات التوازن العالمي يتعين أن نلتفت له.. وهو إرادة استخدام القوة والاستعداد للقيام بدورٍ عالمي وتحمل تبعات وتكلفة هذا الدور.. وعلى سبيل المثال، فإن الولايات المتحدة شاركت في الحرب العالمية الأولى، بل وأسهمت في حسم نتيجتها... ولكنها ما لبثت أن انكفأت على نفسها بعد انتصار تيار الانعزال داخلها.. وهكذا لم يجد النظام العالمي قوة تحميه.. وسرعان ما تفككت عصبة الأمم، لتمهد الطريق إلى حرب عالمية جديدة.
اليوم، لا يسع المراقب سوى أن يرصد ملامحًا لهذا الميل الانعزالي لدى الولايات المتحدة.. وهو ميلٌ له قبول داخلي قوي في الولايات المتحدة عبَّر عنه "دونالد ترامب" في فترة رئاسته.. كما اكتسب تيار الانعزال أيضًا زخمًا كبيرًا بعد تجربتي تدخل فاشلتين في أفغانستان والعراق.. ولا شك أن القوى الصاعدة ترصد هذه النزعة الأمريكية لتجنب التورط العسكري.. كما تُدرك ما تمر به أمريكا والذي يمكن تسميته بـ "الإنهاك الاستراتيجي".. ولا شك أيضًا في أن هذا هو ما شجع تلك القوى، وبخاصة الصين وروسيا، على كسب مساحات جديدة والتقدم خطوات في تحقيق أجندتها.
إن الصين لديها أجندة عالمية.. هذا ما تعكسه مبادرة الحزام والطريق.. وكذلك الخطاب الصيني العلني بالسعي إلى إعادة توحيد البلاد، أي استعادة تايوان.. وإن كانت الصين تُفضل أن تتحقق هذه الوحدة بطريقة سلمية، وليس باستخدام القوة... تريد الصين كذلك أن تُعامل باحترام يليق بقوة كبرى، ندٍ للولايات المتحدة.. كما ترفض أن يتدخل الغرب في شئونها الداخلية أو يوجه النقد لنظامها السياسي.. وأخيرًا، هي ترغب في مواصلة الصعود الاقتصادي من دون أن تعمل الولايات المتحدة على تعطيل أو إعاقة هذا الصعود.. بتطويقها تكنولوجيا أو اقتصاديًا. 
أما روسيا، فتسعى كما عبر الرئيس "بوتين" في أكثر من مناسبة، إلى تصحيح "الكارثة الاستراتيجية" الأكبر في القرن العشرين.. أي تفكك الإمبراطورية السوفيتية.. وظهور الناتو على أعتاب روسيا، وفي جوارها القريب.. وقد أعلنت موسكو عن مطالبها بوضوح وتحدٍ غير مسبوق في أزمة الحشود على الحدود الأوكرانية كما تابعنا مؤخرًا.. وهي الأزمة التي تعد -من وجهة نظري- أخطر تهديد تواجهه المنظومة الدولية منذ انتهاء الحرب الباردة. 
السيدات والسادة..
إن هذه الحالة التنافسية، التي تلامس حد الصراع، بين القوى الكبرى، سوف تُلقي بظلالها على كافة مناطق العالم.. وستفرز قدرًا هائلًا من انعدام اليقين في التفاعلات الدولية.. وهناك منطقتان على وجه الخصوص يُمكن اعتبارهما نقطتي احتكاك رئيسيتين في العالم: بحر الصين وشرق أوروبا.. في هاتين المنطقتين، تسعى الولايات المتحدة للحفاظ على قوة الردع والدفاع.. فيما تهدف الصين وروسيا إلى تحدي الهيمنة الأمريكية والغربية على نحو غير مسبوق.. ولا ينبغي استبعاد أية احتمالات لتطور الموقف على هذين المسرحين الساخنين.. بما في ذلك احتمال اندلاع الصراع المسلح.
غير أن عوامل أخرى تجعل الصورة في عالم اليوم أكثر تعقيدًا.. فثمة قضايا لم تكن موجودة في لحظة تأسيس النظام العالمي اكتسبت اليوم أهمية طاغية، بل صارت لها أولوية على ما عداها.. هناك -على سبيل المثال- قضية التغير المناخي، بمختلف تبعاتها البيئية والاقتصادية والأمنية، فضلًا عن عما يصاحبها من الظواهر المناخية المتطرفة والكوارث الطبيعية، والتي صارت –كما نُلاحظ جميعًا- أكثر تواترًا من ذي قبل.. ولا شك أن التعامل مع قضية وجودية مثل التغير المناخي يقتضي تعاونًا استثنائيًا بين الدول.. وبخاصة القطبين الأهم.. أمريكا والصين.. وقد لاحظنا مثلًا أن البيان الختامي في قمة جلاسجو الأخيرة COP 26 لم يكن ليصدر سوى بتوافق معين بين بكين وواشنطن. 
ثمة قضايا أخرى، مثل انتشار التسلح.. وأتحدث هنا عن السلاح النووي وما يُمثله المسعى الإيراني للحصول عليه من تحدٍ لمنظومة حظر الانتشار على نحو قد يدفع قوى أخرى للحصول على ذات السلاح.. بل إن هناك أنواع أخرى من الأسلحة، صارت في متناول قوى متوسطة وصغيرة.. بل وجماعات من غير الدول.. مثل الطائرات المسيرة التي لاحظنا جميعًا تأثيرها الكبير في حسم الصراعات على جبهات مختلفة مؤخرًا، كما حدث بين أرمينيا وأذربيجان، أو في النزاع الداخلي في أثيوبيا.. كما رصدنا تأثيرها الخطير على الأمن في منطقة الخليج. 
وهناك أيضًا تكنولوجيات صارت تُمثل ربما الخطر الأمني الأول في المرحلة الحالية، مثل الحروب السيبرانية... التي لا تستخدمها الدول فقط، وإنما -وبصورة متزايدة- الجماعات الإجرامية.. وخطورة هذه التكنولوجيا تكمن في صعوبة تحديد الجهة المسئولة عن الهجمات وتقصي المهاجمين أو ردعهم.. خاصة في ظل التداخل بين الجماعات الإجرامية والدول التي ترعاها في أحيان كثيرة.. وليس من الصعب رصد التهديد المتزايد الذي تمثله الحروب السيبرانية على أمن الدول والمجتمعات.. بما في ذلك الدول الكبرى. 
ولا ننسى خطر الإرهاب الذي يتغذى على سهولة الحصول على الأسلحة والتكنولوجيا الفتاكة، بما أعطى قوة غير مسبوقة للجماعات الإرهابية.. وبما سمح كذلك بانتشار وبائي للأفكار المتطرفة عبر وسائل الاتصال والتواصل.. الأمر الذي يُسهل حشد الأتباع في سن مبكرة عبر حشو رؤوس الناشئة، بل والأطفال كما يحدث في بعض معسكرات اللاجئين للأسف، بتفسيرات فاسدة ومُضللة للأديان.
وهناك، أخيرًا وليس آخرًا، التهديدات غير المنظورة أو المتوقعة.. والتي تتمثل في أحداثٍ يكون احتمال وقوعها ضعيف، ولكن تأثيرها -إن وقعت- يكون ضخمًا وممتدًا وشاملًا... والنموذج الأبرز على هذه النوعية من الأحداث هو وباء كوفيد الذي ما زال العالم يُعاني تبعاته الهائلة إلى اليوم. 
إن هذه التهديدات، وغيرها، تستلزم نوعًا من التعاون.. خاصة بين القوى الكبرى.. فلا يُمكن مواجهة التغير المناخي سوى بقدر من التعاون والتنسيق لتوزيع المسئوليات والالتزمات.. والتهديد السيبراني يستلزم وضع قواعد دولية جديدة مُلزمة لهذا النوع من التكنولوجيا.. وينطبق الأمر ذاته على تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي بما لها من آثار عسكرية خطيرة.. كما أن مواجهة أحداث عالمية كارثية، مثل الأوبئة، تتطلب مستوىً عاليًا من التعاون والتنسيق على صعيد دولي.. إذ أن الافتقار إلى هذا التعاون يقود إلى إطالة الأزمة كما رأينا في حالة جائحة كورونا. 
والحقيقة أننا لا نعرف إن كانت هذه الأزمات والتهديدات القائمة والمحتملة سوف تدفع القوى العالمية إلى نوع من التوافق... أم أن احتمالات الصراع والمنافسة هي التي ستتغلب في النهاية.. غير أن ما ينبغي علينا تدبره والتفكير فيه هو مستقبل منطقتنا وعالمنا العربي في ظل هذه التغيرات المتلاحقة في قمة النظام الدولي وتفاعلاته.
إن المنطقة العربية تجد نفسها، بموقعها وإمكاناتها الاقتصادية وما تتوفر عليه من مخزون الطاقة، في قلب هذه التحولات والمنافسات العالمية.. واسمحوا لي أن أرصد، باختصار، ثلاث قضايا أو مسائل أرى أنها تنطوي على أهمية كبيرة في المرحلة المقبلة:
المسألة الأولى هي المسألة الأمنية.. 
وأقول في عبارة مباشرة إنني لستُ من المقتنعين بأن الولايات المتحدة في وارد الانسحاب من الشرق الأوسط، ولكنها قد تظهر اهتمامًا أقل والتزامًا أضعف في ضوء التركيز على تطويق الصين على نحو ما ذكرنا.. وتقرأ بعض القوى الإقليمية هذا التوجه الأمريكي باعتباره فرصة لفرض الهيمنة والتمدد في منطقتنا، وعلى حسابنا..  وما زلتُ أرى أن وضع العرب في مواجهة أيٍ من القوى الإقليمية هو محصلة، في الأساس، لقواهم الذاتية، ولقدرتهم على المناورة في بيئة عالمية تتميز بصراعٍ بين الأقطاب. 
وغني عن البيان أن موقفنا في مواجهة القوى الإقليمية هو أيضًا محصلة لقدرتنا على العمل المشترك كعرب.. ومما يؤسف له حقًا أن المنطقة العربية تُعد المنطقة الوحيدة في العالم تقريبًا التي تفتقر إلى نظام أمني جامع، يقوم على قواعد والتزامات متبادلة بين الأطراف.. وأقول بصراحة إن هذا النظام الأمني لن يقوم سوى على أساس من المصارحة الكاملة بين الدول العربية.. وعلى قاعدة من تلبية الحاجات الأمنية المختلفة لهذه الدول.. سواء كانت تلك الحاجة هي أمن الخليج في مواجهة التهديد الإيراني، أو الأمن المائي المصري والسوداني في مواجهة المخاطر القادمة من أثيوبيا، أو إنهاء الاحتلال الإسرائيلي وإقامة الدولة الفلسطينية.. أو غير ذلك من القضايا والمخاطر التي تشغل دولنا من المحيط إلى الخليج. 
بل وأقول إن الحوار مع الأطراف الإقليمية، سواء إيران أو تركيا أو إسرائيل أو أثيوبيا، لا بد أن ينهض على أساسٍ من التنسيق العربي الجماعي.. وإلا فسوف يُفرَض علينا خوض مثل هذا الحوار بأوراقٍ ناقصة، وعناصرَ قوةٍ غير مكتملة.
أما المسألة الثانية فتتعلق بتأثير الأوضاع العالمية، كما وصفتها، على الأوضاع الداخلية في الدول العربية.. 
وقراءتي اليوم أن ثمة مراجعة مهمة تجري في الولايات المتحدة والغرب لفكرة خطيرة سادت لفترة من الزمن.. ألا وهي الترويج لنظام سياسي بعينه باعتباره النظام الأمثل للحكم في كافة الدول والمجتمعات... لقد تبين من تجارب مختلفة، خاصة في العراق وأفغانستان، استحالة فرض النموذج الغربي في بيئة مغايرة مهما توفر لذلك من ميزانيات.. وثبتت استحالة بناء الدول بأيادٍ خارجية مهما رُصد لهذا الجهد من إمكانيات.. إن حصيلة هذه التجارب كانت بائسة ومُدمرة للمجتمعات.. وهناك اليوم ما يُشبه الإقرار بأن العالم يتحمل أكثر من نموذج في الحكم.. وأن العلاقات تجري بين الدول على أساس الاحترام المتبادل، وليس من منطلق تفوق نموذج ثقافي وسياسي على غيره. 
وتقديري أن الكثير من دوائر الحكم الغربية صارت أكثر وعيًا بمخاطر تطبيق مبدأ التدخل في الشئون الداخلية لفرض نظامٍ سياسي على الآخرين كأساس للعلاقات الدولية.. وصارت أكثر إدراكًا لما ينطوي عليه ذلك من تكلفة كبيرة وخسائر رهيبة لا تتحملها حتى القوى الكبرى.. وظني أن المرحلة القادمة سوف تشهد معيارًا آخر للحكم على تطور المجتمعات، بخلاف المنظور الغربي الضيق الذي يركز على الديمقراطية، وهو معيار "الحكم الرشيد" الذي يمزج بين حكم القانون وجودة الإدارة الحكومية، ومدى الالتزام بمعايير التنمية الإنسانية الشاملة، وتوسيع الفرص للنمو لكافة فئات المجتمع. ولدي ثقة في أن أغلب دولنا العربية يلتزم هذا النهج، ويسير في ذلك الطريق.. وتُمثل عُمان بلا شك نموذجًا مُهمًا، يدعو للإعجاب والفخر، في مجال الحكم الرشيد والتنمية الإنسانية.
المسألة الثالثة والأخيرة تتعلق بالصراعات والمشكلات القائمة في المنطقة العربية.  
وأقول هنا بوضوح إن هذه الصراعات، سواء في اليمن أو سوريا أو ليبيا.. وأيضًا المشكلات السياسية المستحكمة، سواء في السودان أو لبنان، وبصورة ما في العراق وتونس.. لا تتوقف آثارها عند حدود الدول التي تدور فيها، والتي يُعاني أبناؤها ويلاتها وشرورها.. وإنما نرى جميعًا أن تبعاتها تلمس المنطقة العربية في مجموعها، وتؤثر على فرصها في النمو، وترسخ انطباعًا عنها كبؤرة للتوترات والمخاطر الأمنية.. والمأمول هنا أن تتحد الإرادة العربية من أجل مساعدة الدول التي تُعاني من دائرة الصراع والاحتراب على كسرها، والخروج منها إلى فضاء الاستقرار والأمن.. وفي هذا تحصين للنظام العربي في مجموعه، وتقليص لتبعات الصراعات وآثارها المُدمرة، بما في ذلك ظهور أجيال جديدة من اللاجئين والنازحين والشباب المحرومين من الفرص في التعليم والحياة الكريمة.. ونعرف جميعًا أن تلك هي البيئة التي تعتاش عليها جماعات التطرف والإرهاب لتجند أعضاءً جددًا.. لذلك فإنني أتطلع إلى يوم لا يكون فيه في عالمنا العربي معسكرٌ واحدٌ للاجئين.. لأنني أعرف يقينًا أن هذه المعسكرات، وإن كانت تنقذ البشر وتغيث الملهوفين، فإنها لا تُبشر بالمستقبل الذي نريده لعالمنا العربي ونعرف أنه يستحقه.
.....
وأخيرًا أقول.. إن البيئة العالمية والإقليمية سوف تفرض على دولنا العربية، وأجهزة صنع القرار فيها، درجات أعلى من الحذر والتحسب والقراءة الدقيقة للمتغيرات.. وإيقاعًا أسرع في التعامل مع مقتضيات الواقع.. وقدرةً أكبر على التكيف مع التبدل السريع الذي يجري على أكثر من صعيد... وخيالًا أوسع في تصور المستقبل وسبل الاستعداد له... ومرونة أكبر في بناء التحالفات ومد جسور الصداقة في زمن ستكون السيولة طبيعته الأساسية، والتغير هو ثابته الوحيد.
شكرًا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.