بطرس دانيال يكتب: كل عام وأنتم بخير
ما أجمل هذه الكلمات التى نطق بها داود النبى قائلًا: «علّمنا يا رب أن نحصى أيامنا فَتَبلُغَ الحكمة قلوبنا» (مزمور ٨٩: ١٢). يودّعنا بعد قليل عام ٢٠٢١ لنبدأ عامًا جديدًا، فهل قمنا بوقفةٍ مع الذات لنفحص كيف قضينا هذا العام قبل أن يفلت من بين أيدينا؟ هل استثمرنا جميع الفرص التى منحنا إياها الله لخير البشرية؟ يُحكى عن أحد الشباب كان فيّاض بالحيوية وصاحب طموح بعيد، ذهب إلى أحد المعلمين الحكماء ليحكى له عن مشاريعه المستقبلية، وكيف أنه يربط ساعات الليل بأطراف النهار لينال شهادة المحاماة، فسأله: «وماذا ستفعل بعد الشهادة؟» أجابه الشاب: «سأقوم بالمرافعة فى المحاكم وأسعى فى كسب أهم القضايا التى تضمن لى شهرة واسعة». «وبعد ذلك؟» «مما لا شك فيه أن الشهرة سوف تدرّ عليّ أموالًا طائلة». «وبعد ذلك؟» «وبعد ذلك؟ ماذا بعد؟ سأموت طبعًا!». «وماذا ستعمل آنذاك حينما تجد نفسك أمام الله الديّان الذى ينتظرك؟». وهنا خجل الشاب وصار وجهه شاحبًا، ثم مضى فى صمت. تعلّمنا هذه القصة بألا نحصر اهتماماتنا فى هذه الحياة بالنجاح الشخصى فقط؛ ولكن يجب أن تتذكر الله الخالق ونسعى لخدمة الآخرين أيضًا. إذًا يجب أن نكون مستعدين وحاضرين ولا نترك الوقت يمر من بين أيدينا دون الاستفادة منه، وأن نتعلّم كل يومٍ درسًا جديدًا للغد. إن الخطأ الفادح الذى نقع فيه تجاه الوقت هو أن نكون غائبين عنه، فى حين أن الوقت حاضر فى كل لحظة ويرافقنا، لنتخيل أننا قمنا بدعوة ضيف فى منزلنا، ويكون هو داخل البيت ونحن فى الخارج، فالوقت حاضر دائمًا ولكن للأسف نحن مازلنا تائهين عنه وغير مدركين بقيمته، حتى أننا نصبح خارجين عن ذاتنا ووعينا. فإن خطوة واحدة فى توقيتها المناسب اليوم، توفّر علينا الكثير من المعاناة فى المستقبل. إذًا الوقت حاضر بيننا وفى كل لحظة، لكن ينقصنا الاستفادة منه واستغلاله بالشكل الصحيح. لذلك يجب علينا أن نستثمر كل يوم منحنا إياه الله، لأنه يحمل معه رجاءً وأملًا من الله أولًا، ثم من كل شخصٍ منّا. إن الله واهب العطايا والقادر على كل شيء، يرسل لنا علامة مضيئة مع بزوغ فجر كل يوم، فالله موجود فى حياتنا ويثق فى قدراتنا، وينتظر من كل شخصٍ منّا عملًا فريدًا وفعلًا حسنًا وقولًا هادفًا. لأن الله ينتظر منّا أشياءً مختلفة عمّا قبل. ولن نتوصل إلى هذا النجاح إلا إذا وضعنا نُصب أعيننا كل يوم، حقيقة الحياة التى تمر سريعًا، والأيام والسنين التى تهرب من بين أيدينا. فكل لحظة فى حياتنا هى بمثابة فرصة جديدة يجب أن نستغلها من أجل الخير، وأن نقدّر الوقت الذى منحنا إياه الله، فالزمن دقيق وملتزم، ولكنه على عُجالة ولا يستطيع الانتظار، لن يتوقف مجاملةً لنا وكم ستكون الخسارة فادحة إذا كنّا مشتتين وغير مقدّرين قيمته. لنُصغى إلى الحكمة التى تقول: «احفظ اليوم، لأن الأمس ما هو إلا حُلم، والغد رؤيا فقط. لكن اليوم إذا قضيناه كما يجب، سيجعل من كل أمس حُلمًا للسعادة، ومن كل غدٍ أملًا ورجاءً، لذلك يجب أن تحافظ على اليوم جيدًا». مما لاشك فيه أن الغالبية العظمى من البشر اعتادت على أن تفقد اليوم من بين أيديها، أو تقضيه وهى متطلعة للمستقبل، أو تنغمس فى الحنين للماضى، لكننا مدعوون أن نستغل اليوم لنجنى ثماره الدفينة وقوته الداخلية وفائدته المنتظرة. كم من المرات التى نجد فيها العديد من الأشخاص الذين لا يقبلون اليوم الذى بين أيديهم، أو اللحظة الراهنة، لكنهم يتطلعون إلى الحلم فى المستقبل، وأحيانًا أخرى يشتاقون إلى ماضٍ ولَّى، لكن خبرة الحياة تكشف لنا أن التطلع للمستقبل دون الاهتمام بالحاضر يولّد عدم رضا وخيبه أمل، لأن المستقبل الحقيقى ينمو من اليوم ومما زرعناه فى الحاضر. كما أن الحنين للماضى يدفع الإنسان إلى الكسل والخمول والإحباط والحسرة، خلاف ذلك سيرتكب خطأً جسيمًا وهو عدم تقدير قيمة الحاضر ويحياه بطريقةٍ طائشة ويُشغل أوقاته بأمورٍ لا طائل منها. إذًا كل هذه الأشياء تعوقنا عن استثمار الوقت الماثل أمامنا. ونختم بكلمات الفيلسوف الألمانى شوبنهاور: «إن الحاضر فقط هو واقع حقيقى وأساس الوقت وجوهره، كما أن فيه يتجه مستقبل حياتنا، لذلك يجب أن نعى جيدًا بأن اليوم يصلنا مرةً واحدة فقط لا غير». كل عام وجميعنا بخير وسلام وبركة وصحة.