د. نصار عبدالله يكتب: التصحيح الإلكتروني: تقدم أم تقهقر؟
هذا العام قررت كثير من الجامعات المصرية تعميم التصحيح الإلكترونى فى امتحانات نهاية الفصل الدراسى، وبمقتضى هذا التعميم سوف يتم استبعاد العنصر البشرى (ممثلا فى القائمين بالتدريس) وذلك فى مرحلة التصحيح واحتساب النتيجة، حيث ستقتصر مهمتهم على وضع أسئلة الامتحان ونماذج الإجابة، غير أنه من الضرورى هنا أن نشير إلى أن الأسئلة لا بد أن تتخذ شكلا من شكلين حتى يمكن تصحيحها إلكترونيا، أولهما هو الاختيار من متعدد وفيه يقوم الممتحنون بطرح سؤال معين يعقبه عدد من الإجابات لكى يقوم الطالب باختيار واحد منها، وأما فى النوع الثانى فإن الطالب يقوم باختيار إجابة واحدة فقط من بين إجابتين إحداهما صواب والأخرى خطأ، ثم يقوم بإفراغ إجابته على نموذج خاص مصمم على نحو يستوعب عدد الاختيارات الواردة فى الأسئلة حيث سوف يقوم الماسح الضوئى بقراءة هذا النموذج ومضاهاته بنموذج الإجابة المثلى التى يكون الممتحنون قد حددوها سلفا، أى أنهم قد قاموا سلفا بتحديد الاختيار الصحيح الذى يتعين على الطالب أن يختاره للحصول على الدرجة النهائية المقررة للسؤال، وبعبارة أخرى فإن الطالب فى كل سؤال: إما أن يحصل على صفر أو ١٠٠٪، وبعد هذا فسوف يكون من اليسير جدا على الماسح الضوئى فى خلال ثوان معدودة أن يقوم بتحديد الانحرافات عن مواضع الإجابة المثلى واحتساب مجموعها ومن ثم تحديد الدرجة النهائية التى يحصل عليها الطالب، ورغم أن التصحيح الإلكترونى ينطوى على مزايا لا يمكن إنكارها أو تجاهلها وأول هذه المزايا هى الحيادية التامة فى عملية التصحيح، وعدم التأثر بأية عوامل من بين تلك العوامل التى قد تؤثر على العنصر البشرى أثناء قيامه بالتصحيح فيما لوقام بذلك، أضف إلى ذلك عنصر السرعة الشديدة والدقة المتناهية فى احتساب الدرجات التى سوف تكون صحيحة خالية من الكسور بالضرورة، فضلا عن تحقيق التطابق التام فى الدرجات بين جميع أوراق الإجابة المتطابقة، غير أن هذه المزايا تقابلها مجموعة من العيوب تجعل من تطبيقها أمرا يقرب من العبث فى مجالات معينة كالفنون والآداب وبعض فروع العلوم الإنسانية وهى بوجه عام تلك المجالات التى لا يمكن فيها وصف أمر ما أو عبارة معينة بأنها خطأ تماما أوصواب تماما بل إنها دائما تقع على نقطة ما بين الخطأ التام والصواب التام أو بعبارة معينة على نقطة معينة بين صفر و١٠٠٪ أضف إلى ذلك أن التصحيح الإلكترونى لا يستطيع قياس القدرات الإبداعية لدى الطالب الذى يؤدى الامتحان بل إنه يتعامل مع المبدع فى أى مجال من المجالات باعتباره خارجا على النموذج المطلوب ومستوجبا بالتالى لدرجة «صفر»، خذ على سبيل المثال مجال الفن التشكيلى ولنحاول أن نعرف ماهى الدرجة التى سوف يعطيها التقييم الإلكترونى لبورتريه قام به طالب فى كلية الفنون الجميلة، وقبل ذلك فلنحاول أن نعرف كيف يمكن إجراء التقييم الإلكترونى فى مثل هذه الحالة أصلا وما هى المعايير التى سيعتمد عليها التقييم وكيف يمكن تحويل كل معيار منها إلى واحد من قيمتين إحداهما صفر والأخرى هى الدرجة النهائية، وما يقال عن الفن التشكيلى يمكن أن يقال عن الأدب، إذ كيف يمكن الحكم على نص أدبى من خلال معايير معينة، كل معيار منها يحصل إما على صفر أوعلى ١٠٠ وبهذا يمكن للنص ككل أن يحصل نظريا على الأقل من خلال التقييم الإلكترونى على ١٠٠٪ ومعنى هذا أنه قد وصل إلى حدالكمال !! ماذا إذن عن كبار النقاد الذين كثيرا ما اختلفوا حول كثير من الروائع الأدبية؟، وما هومكان الطالب الذى أجهد نفسه فى التعرف على تلك الاختلافات والاطلاع على تفصيلاتها وكون لنفسه رأيا خاصا فى كل منها ؟، وهل يتساوى مثل ذلك الطالب مع من لم يقرأ شيئا ولم يعرف شيئا سوى ما هو مكتوب فى المذكرة أو الكتاب الذى وضعه القائم بالتدريس (لهذا السبب تحولت الكتب الجامعية إلى تجارة احتكارية مربحة، وسوف تزدهر أكثر من ذى قبل بعد تعميم التصحيح الإلكترونى)، الخلاصة التى أريد أن أنتهى إليها هى أن مزاياالتصحيح الإلكترونى تبرز أكثر فى تلك العلوم التى اصطلح مصنفو العلم على تسميتها بالعلوم الطبيعية كالفيزياء والكيمياء وهى تلك التى تدرس الجوانب المختلفة للعالم الطبيعى وهى تلك التى حتى إن درست الإنسان فهى تدرسه باعتباره جزءا من الطبيعة وليس باعتباره كائنا ذا إرادة مؤثرا ومتأثرا بالمجتمع الذى يعيش فهذا الجانب الأخير هو ماتنصب عليه دراسة العلوم الإنسانية وما يرتبط بها من فنون وآداب لايجدى معها التقويم الإلكترونى، فإذا عدنا إلى السؤال المطروح هل تعميم التصحيح الإلكترونى إذن تقدم أم تقهقر، كانت الإجابة إنه تقدم فى مجالات معينة أما فى مجال الإنسانيات فهو تقهقر لا شك فيه.