أعمق من نجيب محفوظ
صفقة انتقال ميراث نجيب محفوظ بـ١٣ مليون جنيه وأبناء إحسان أعدموا آلاف النسخ من رواياته من أجل صفقة المصرية اللبنانية
آن الأوان لأن يطرح ورثة الكبار طبعات شعبية لأعمال الآباء بأسعار معقولة حتى لو خسروا بعض الملايين من الجنيهات
هل يتوقع أولاد الأستاذ هيكل أن يصل تراث والدهم إلى الشباب فى ظل أسعار كتبه؟
حين جاءت جائزة نوبل لنجيب محفوظ وانهالت عليه الحوارات، سئل ضمن ما سئل عن قيمة الجائزة المالية البالغة مليون دولار، فأجاب الرجل بأن المبلغ بالنسبة لرجل فى عمره مثل (كناسة) العطار، تعبير منحوت يأخذك إلى عالم الحرافيش وحوارى الجمالية ومحل السيد أحمد عبد الجواد فى الثلاثية.
ولكنه تعبير كاشف عن درجة لا يستهان بها من الأحباط لدى نجيب محفوظ، ففى سنه البالغ ٧٧ عامًا لم يعد قادرًا على الاستفادة بالدولارات لا بمغامرات نسائية ولا رحلات سياحية التى كان يكرهها على أيه حال، وقد قسم الرجل المبلغ بينه وبين زوجته وابنتيه بالتساوى.
الحقيقة أن هذا الإحباط ظهر فى مواقف أخرى لنجيب محفوظ، أصبح زاهدا فى النشر ودخول أى معركة من أجل أعماله، لم يعد لديه النفس أو شهوة حب الكاتب لكاتاباته وتقديسه لأعماله، فى الحقيقة فإن عشاق أدبه والحرافيش كانوا أكثر حرصًا منه على قدسية كلماته وعناوين رواياته وعدم المساس بأى كلمة من كلماته.
بعد فوزه بجائزة نوبل قررت «دار الهلال» طبع روايته أولاد حارتنا من خلال روايات الهلال، وتحمس الكاتب الراحل مكرم محمد أحمد حين علم أنه لا يوجد أى قرار منع لنشر الرواية سواء من الأزهر أو الرقابة أو الرئاسة، وبدأت الاستعدادات لنشر الرواية التى فجرت جدلًا منذ نشرها الأستاذ هيكل فى جريدة الأهرام مسلسلة يوميا عام ٥٩، ولكن الأديب الكبير يوسف القعيد حمل رسالة لمكرم من نجيب محفوظ، الرسالة تشكر مكرم على المبادرة وترجوه بعدم نشر الرواية فى مصر.
حين عاود الناشر الكبير إبراهيم المعلم الطلب ضاغطا على نجيب محفوظ بأن البعض نشر الرواية بالفعل، قبل نجيب بشرط أن لا يكون لدى مؤسسة الأزهر غضاضة أو غضبًا أو شيئًا من نشر الرواية فى مصر، وأن يكتب المقدمة للرواية إما الدكتور محمد الغزالى أو الدكتور أحمد كمال أبو المجد، فقد كان نجيب حريصًا على ألا يخوض معركة ضد مؤسسة الأزهر، أو بالأحرى يراهن على سلام وهدوء أيام كان يعلم أنها الأخيرة من العمر.
وحين تقترب من نهاية الرحلة يقل اهتمامك وتقديرك لكل ما أنجزته خلالها، تعيد النظر إلى مواقف وأشخاص وكأنك تراها لأول مرة، وتزهد الدخول فى معارك حتى لو كانت معارك ورقية، ولا ترى لإنجازاتك نفس الأهمية أو القدسية التى كنت تراها فى الماضى أو يراها الآخرون.
لقد وافق نجيب محفوظ على تغيير اسم روايته (عبث الأقدار) فى النسخة المبسطة للأطفال والتى طرحتها دار الشروق فى حياته، ونشرت بعنوان (عجائب الأقدار)، وكان السبب أن بعض الدول الخليجية لم توافق على العنوان لأنها رأت فيه تجاوزا دينيا، وظلت الرواية تصدر باسم عبث الأقدار، ونسخة الأطفال عجائب الأقدار، فحين تكون فى العربة الأخيرة من قطار العمر لا تتوقف كثيرا عند عنوان واحدة من رواياته أو تغيير كلمة أو اثنتين فى رواية أخرى.
قبل محاولة اغتيال نجيب محفوظ بيوم واحد ذهب إليه الكاتب حلمى النمنم مفزوعا بعدما اكتشف أن ناشر أعمال نجيب (كانت الطبعة لمكتبة مصر) قد بدل كلمتين فى إحدى روايات الأستاذ، ولكن نجيب لم يظهر لا الفزع ولا سوء النوايا، معتقدا أن الأمر قد يكون خطأ من المصحح، وأنه لا يستطيع اتهام الناشر بالتحريف أو التلاعب فى أعماله لمجرد كلمتين فى إحدى الروايات، هل هو تواضع أو زهد أو إحباط واكتئاب النهاية؟. حتى حينما تطوع البعض بنشر أولاد حارتنا دون موافقة نجيب محفوظ فإن قلقه أو ربما خوفه وفزعه من نشر الرواية دون موافقة الأزهر قد الهاه عن الكارثة التى حدثت للنسخة المطبوعة فى مصر، فهى تختلف عن النسخة التى أصدرتها دار الآداب اللبنانية عام ٦٢، ويرى بعض أقرب المقربين من أديب نوبل أن طبعة بيروت هى الأدق والأصح، وأقل من ذلك لم يدافع نجيب محفوظ عن لوحات الفنان الكبير سيف وانلى التى صاحبت الطبعة الأولى من (المرآيا) واختفت فى الطبعات الأخرى، كان يعلم أن مستقبله أصبح وراءه، لقد اكتمل قمره ولكن جسده بدأ فى خذلانه ولم يعد لا القلب ولا العقل متحسمًا أو متشوقا أو قادرًا على دخول حلبة الحياة مرة أخرى بعد أن حجز مقعدًا فاخرًا له كمراقب ومشاهد بدرجة أديب نوبل، ولم يدخر له القدر سوى يد الغدر التى حاولت اغتياله فى عام ٩٥، لم تعد لا الحياة ولا قدرته على الكتابة كما كانت قبل محاولة الاغتيال.
رحل نجيب محفوظ وأصبحت التركة الآن فى يد الابنة أم كلثوم وتركت دار الشروق وقسمت ثروة الكتب إلى اتفاق ورقى مع مكتبة ديوان بـ٧ ملايين جنيه، واتفاق نشر إلكترونى مع دار هنداوى للنشر نظير ٦ ملايين جنيه، وقبل أن تنطلق ألسنة الحاسدين ومن باب التذكير، فإن هذه الملايين أيضا كناسة عطار أخرى، فابنة أم كلثوم تجاوزت الستين، وبعيدا عن الضجة والخناقات التى تفجرت والتى خرج فيها إبراهيم المعلم منتصرا من شائعات التلاعب فى روايات نجيب، وبعيدا عن كواليس المنافسة بين دور النشر التى لا يستفاد منها القارئ، فإن للقضية بعدًا آخر.
فانتقال أعمال نجيب إلى دار نشر أخرى لم يكن الحدث الكبير الوحيد فى سوق النشر، فقبل ذلك بعدة أعوام نقل ورثة الكاتب الكبير إحسان عبد القدوس أعماله من دار أخبار اليوم إلى دار المصرية اللبنانية، وقد أرسل لى ابن إحسان المهندس أحمد عبد القدوس مشكورًا بعضًا من روايات إحسان من طبعة المصرية اللبنانية، ولكننى شعرت بشوق لنسخ أخبار اليوم التى كنت اشتريها بجنيهات قليلة وأفرح بغلافها ورائحة الحبر بها، مع الأسف أعدم ورثة إحسان آلاف النسخ من رواياته طبعة أخبار اليوم بإهمالها، وتعنتوا مع وزارة الثقافة لمجرد أنها قالت إنها ستحيل النسخ إلى لجنة قبل استلامها، أكلت الفئران النسخ فى بدروم رطب ومظلم، ولكنه أقل ظلاما من مناخ الثقافة وقبول الاختلاف فى مصر المحروسة، هذا المناخ الذى دفع ناشر أعمال إحسان (مكتبة مصر) بحذف كل الكلمات التى رأها ساخنة، واكتشف حلمى النمنم الجريمة، وجرجر الناشر إلى المحكمة فدافع الرجل عن نفسه بأن ابن إحسان محمد قد وافق على الحذف، وتمسك أحمد بحق والده فى عدم العبث بأعماله، وتم فسخ العقد، لقد حافظ أحمد عبد القدوس على أعمال والده دون تشويه، ولكنه لم يقم بالمثل فى آلاف من النسخ لروايات والده حين تعلق الأمر بناشر جديد، واتفاق مالى سخى، لم يتساءل ورثة إحسان ولا ورثة نجيب محفوظ عن قدرة القارئ على شراء روايات أو بالأحرى ثروة والدهما من المصرية اللبنانية أو ديوان، ولو كنت مكان هذا وتلك لاخترت الهيئة العامة للكتاب لأتيح لأكبر عدد من المصريين قراءة روايات نجيب أو إحسان بسعر معقول فى طبعات شعبية، هذا هو الوفاء الحقيقى وربما التحدى الحقيقى لأبناء كبار الكتاب، تحدى الثراء والملايين من الجنيهات، هذا التحدى يحتاج إلى ورثة يعرفون الفارق بين ميراث الآباء من الفكر والإبداع وميراثهم من العقارات والأراضى وودائع البنوك، فالميراث الثانى حق خالص لهم، ولكن الميراث الأول من الإبداع تحتاج إلى قبول أن ملايين القراء يشاركونهم فى هذا الكنز، وأن أكبر تحية وتقدير يقدمها هؤلاء الورثة وأمثالهم هو إتاحة إبداع وتراث الآباء بسعر يسمح للملايين بقراءته، وهذه القاعدة تنطبق أيضا على أولاد الكاتب الكبير الراحل هيكل التى تباع كتبه بأسعار تفوق قدرة الشباب وملايين المصريين وأبناء كل الكتاب والمبدعين.
ولهذا اخترت عنوان مقالى أعمق من نجيب محفوظ لأن القضية أعمق من أزمة منافسة عابرة فى سوق النشر، القضية هى إتاحة طبعات شعبية من أجل ملايين المصريين ولو على حساب الثروات التى يحققونها من دور النشر الخاصة فهذه هى الحياة الحقيقة لكل المبدعين والكتاب.