د. نصار عبدالله يكتب: بداية الطريق إلى الكارثة
فى ١٩ ديسمبر ١٩٥٦تم إنزال العلم البريطانى من على مبنى هيئة قناة السويس فى مدينة بورسعيد بعدأن كان المبنى قد تحول مقر للقيادة العسكرية المشتركة للدولتين اللتين شاركتا فى العدوان على مصر عقابا لها على قيامها بتأميم شركة قناة السويس... وقد وقع العدوان رغم أن قرار التأميم ينص صراحة على تعويض جميع مالكى أسهم الشركة بما يعادل القيمة السوقية للأسهم التى يمتلكونها طبقا لأسعار البورصات العالمية المعلنة فى آخر إقفال لها قبل التأميم، وبمقتضى هذا التعويض لم يكن هناك أى غبن مالى لمالكى الأسهم خاصة أن امتياز القناة كان سينتهى فى عام ١٩٦٨ وعندئذ سوف تصبح مصر هى المالك الوحيد للقناة، وحتى مع افتراض وجود غبن ما، فإنه على مستوى ما هو منظور على الأقل لم يكن مثل ذلك الغبن مما يستدعى شن عمل عسكرى، فضلا عن التآمر مع إسرائيل التى قامت فى ٢٩أكتوبر ١٩٥٦بتحريك قواتها عبر سيناء متجهة صوب القناة لإيهام العالم بأن حرية الملاحة فى قناة السويس تتعرض للخطر، ومن ثم فقد قامت بريطانيا وفرنسا فى يوم ٣٠أكتوبر بتوجيه إنذار إلى مصر وإسرائيل بسحب قواتهما إلى مسافة عشرة أميال على جانبى قناة السويس والسماح للقوات البريطانية والفرنسية باحتلال مدن القناة لتأمين حركة الملاحة العالمية، ولما لم تكن القوات الإسرائيلية قد بلغت بعد مسافة عشرة أميال فإن إسرائيل أعلنت أنها سوف تستجيب للإنذار إذا ما وافقت عليه مصر، غير أن مصر قامت برفضه رفضا قاطعا، وفى اليوم التالى:٣١ أكتوبر قام الطيران البريطانى والفرنسى بغارات على القاهرة والإسكندرية فضلا عن مدن القناة وبوجه خاص مدينة بورسعيد التى تعرضت لهجمات كثيفة تمهيدا لإسقاط قوات المظلات عليها، غير أن تلك القوات ووجهت بمقاومة عنيفة من كتائب الدفاع الشعبى، حيث استمرت تلك المقاومة تقوم بعملياتها حتى بعد أن نجح البريطانيون فى الاستيلاء على المدينة واتخاذ مبنى هيئة القناة مقرا للقيادة المشتركة.. كان من الواضح للعالم بأكمله أن الهدف الحقيقى للعدوان ليس هو تأمين حرية الملاحة فى القناة، وأن كل دولة من الدول المعتدية تسعى إلى تحقيق أجندتها الخاصة، فإسرائيل من ناحيتها كيان يسعى إلى التوسع ومن ثم فإن المرحلة الأولى من أطماعها تتمثل فى شبه جزيرة سيناء، أما بريطانيا فقد زعزع نفوذها فى المنطقة ما عمد إليه الرئيس جمال عبدالناصر من انتهاج سياسة تحررية ترفض الانضواء فى الأحلاف العسكرية التى تدور فى فلك الغرب، بل وسعيه أيضا إلى حض الدول العربية على عدم الانضمام إلى حلف بغداد ونجاحه فى تحقيق هذا الهدف إلى حد كبير حيث لم تفلح بريطانيا سوى فى ضم دولة عربية واحدة إليه هى العراق الملكية، وكان عبدالناصر قبل ذلك قد وجه لطمة كبرى إلى العالم الغربى عندما نجح فى عقد صفقة أسلحة تشيكية، أما فرنسا فقد كانت تحاول أن تثأر من سياسة عبدالناصر الداعمة لجبهة التحرير الجزائرية التى كانت تناضل ضد الاحتلال الفرنسى.. كان هذا كله واضحا للعيان مما دفع العالم العربى بأسره للوقوف الفعال إلى جانب مصر: ففى سوريا اندلعت المظاهرات المؤيدة لمصر وتم نسف أنابيب النفط فيها بمبادرة شعبية، وفى السعودية أعلنت التعبئة وأرسل الملك سعود إلى مصر قوة عسكرية من المتطوعين أطلق عليها: «المجاهدين السعوديين للدفاع عن الوطن العربى» كان من بين أفرادها الأمراء: «سلمان» و«فهد» و«سلطان» و«عبدالله الفيصل» من أبناء الملك عبدالعزيز، كما أوقف ضخ النفط إلى بريطانيا وفرنسا، وماحدث فى السعودية وسوريا تكرر بشكل أو بآخر فى العديد من البلاد العربية، وأما على المستوى العالمى فقد لقى العدوان استنكارا واسع النطاق وصل إلى حدد تهديد الاتحاد السوفيتى بضرب لندن وباريس بالصواريخ مالم توقفا العدوان، وحتى الولايات المتحدة لم تغتفر لبريطانيا وفرنسا أنهما قامتا بما قامتا به دون علمها، وهو ما دفعها إلى ممارسة ضغوطها عليهما للانسحاب، وقد نجحت الضغوط الأمريكية فى مقابل أن تدفع مصر الثمن وهو السماح لإسرائيل بالمرور فى خليج العقبة، وفى تصورى فإن اضطرار عبدالناصر إلى قبول هذا الثمن كان يمثل جرحا فى ضميره الوطنى، وكان هو البداية الحقيقية لكارثة النكسة عام ١٩٦٧.