بطرس دانيال يكتب: المعاملة... فن
يشدّد القديس بولس الرسول فى رسالته على أهمية المحبة قائلًا: «فالإيمان والرجاء والمحبة هى الثلاثة الباقية وأعظمها المحبة» (١قورنتس ١٣:١٣). نحن نعلم جيدًا بأن هناك بُعدًا ومسافة نقيمهما بيننا وبين الآخرين، ويكون المقصود منهما البغض والكراهية وتجنب الآخر، لأننا لا نتحمله وفى الوقت نفسه لا نريد رؤيته. هذه كلها ناتجة عن اللامبالاة وعدم المقدرة على فهم الآخر وقبوله، وهذه المسافة هى استنفار وسوء المعاملة مع الناس. وفى المقابل نجد اقترابًا مُبالغًا فيه ومسيئًا، والذى نطلق عليه غزوًا واقتحامًا وتعدّيًا وتطفّلًا وفضولًا. ولكن بين هذين القطبين من الاقتحام والغياب، يجب أن نضع مكانهما المشاركة فى آلام الآخرين ومتطلباتهم واحتياجاتهم، أى نقترب من الغير واضعين بيننا وبينه مسافة، نقترب منه دون أن ننزع عنه قدرة التنفس واستنشاق الهواء والحرية والتلقائية. هنا نتذكّر القصة الرمزية للفيلسوف الألمانى شوبنهاور التى يحكى فيها عن مجموعة من القنافد اقتربت من بعضها فى إحدى ليالى الشتاء القارسة طلبًا للدفء، وهربًا من الطقس الجليدى شديد البرودة، ولكنها لاحظت أنها كلما اقتربت من بعضها أكثر، شعرت بوخز الأشواك التى تحيط بأجسادها، مما يسبب لها المزيد من الألم. وكلما ابتعدت عن بعضها البعض شعرت بالبرودة التى تجمّد أطرافها، وبحاجتها للدفء فى أحضان أقرانها، فاستمروا على هذه الحال بين ألم الاقتراب، وبرودة الانفصال؛ حتى أنهم توصلوا إلى المسافة المناسبة التى تَقيهم من برودة الطقس الجليدى، وتضمن لهم أقل درجة من ألم وخز أشواك الاقتراب. مما لا شك فيه أن البعض منّا يعتقد بأنه كلما ازداد قربًا ممن يحبهم، فإن هذا يجعلهم يشعرون بالسعادة، ولكن هذا غير صحيح على الإطلاق. لأننا فى كثير من الأحيان نصل لدرجة أن نحتل مكان الشخص المقرّب لنا، ويفقد هذا التقارب الزائد معناه وحميميته، ويتحوّل إلى اختناق يدفع الآخرين إلى الشعور بالملل والضجر، ومن المحتمل أن ينتج عنه نفور وكراهية. لذا يجب علينا أن نعى بأن كل إنسانٍ على الأرض له خصوصيته وأسراره التى يحرص على أن يحترمها كل مَنْ يتعامل معه مهما كانت درجة قرابته أو صداقته. وهناك نقطة أخرى وهى أن لكل شخصٍ منّا عيوبه وأشواكه الخاصة التى قد تظهر للغير، ولا يشعر بآلام وخزاتها إلا عندما يكون على مسافة غير مناسبة منه. مما لا شك فيه أننا نكتشف فى حياتنا اليومية أشخاصًا عزموا النيّة على أن يقوموا بالواجب معنا مهما كلّفهم الأمر، مدفوعين بالإرادة الطيبة لأن كل ما يدور فى ذهنهم هو أن يقدّموا لنا خيرًا، محاولين بشتّى الوسائل والطرق أن يطبّقوا هذا النموذج الطيب، ولكنهم فى النهاية يكتشفون أن كل ما يفعلونه هو لمصلحتهم وليس خدمةً لنا. إنهم حقًا يحبوننا بكل ما لديهم من وسائل دون أن يشعروا بأنهم جرّدونا من ذواتنا، ونزعوا عنّا شخصيتنا، وتصبح رغبتهم الوحيدة أن نصير كالصورة التى فى مخيلّتهم. لذلك يجب علينا أن نقوم بمساعدة الآخرين، واضعين فى الاعتبار حدودنا حتى لا نتعدّى على حرية الناس. كما نستطيع أن نعيش ونطبّق المحبة بأشياءٍ بسيطة ورمزية لن تكلّفنا شيئًا: ابتسامة، تكريس دقائق قليلة من وقتنا للآخرين، كلمات ممزوجة بالتسامح، لفتة صداقة، حركة شهامة تجاه شخص ما ثقيل الدم بالنسبة لنا، مبادرة سخاء مع إنسان لا يستحقها، فُتات من الصبر مع امرأةٍ أو رجل مُسن يزعجنا، لفتة انتباه مع شخصٍ ردىء الطبع، رسالة شفهية أو مكالمة تليفونية لفردٍ مُهمل من الجميع. إذًا... نحن بحاجةٍ إلى القليل والبسيط لنعبّر به عن محبتنا للآخرين واحترامنا لهم، وبذلك نستطيع أن نغيّر طريقة معاملتنا معهم ونظراتنا لهم، ولا نقتحم حياتهم الشخصية ولا نفرض أنفسنا عليهم. من هنا ستتبدّل الحياة من الظلمة إلى النور، ومن البغض إلى الحب، ومن الإساءة إلى المغفرة. كما أن الجميل فى أعيننا نحو الآخرين، سيظل جميلًا على الدوام عندما نقترب منهم واضعين مسافة بينهم وبيننا. ولكن تنقصنا الشجاعة لنحقق ونطبّق هذا فى حياتنا اليومية، فنحن نرغب فى حل المشاكل العويصة دون أن نتطرق للأشياء البسيطة التى تجعل حياتنا على الأرض ملكوتًا سماويًا إذًا.. المحبة تمتلك عصاه سحرية وقوة خارقة بها نستطيع تغيير كل شىء إلى الأفضل والأجمل والأنفع، خلاف ذلك فهى الواجب الجوهرى والضرورى لكل إنسانٍ، ومَنْ لا يستطيع العيش بمحبة؛ سيكون مصيره الفشل والضياع والخسارة. ونختم بالقول المأثور: «إذا كانت الحياة زهرة، فالحُب رحيقها».