عادل حمودة يكتب: الشهادات المزورة آخر جرائم الضمير العام.. كندا تفرض على المسافر إليها مسحة كورونا من دولة غير مصر
الغبرا لم يرد الدين إلى الجالية المصرية التى صوتت له فى الانتخابات التى قادته للوزارة فى 2021
بعد تحذير الدول من أوميكرون وضع ٨ دول أفريقية فى قائمة الممنوعين من دخول كندا وأضاف مصر فى اليوم التالى
حفظ «جيمس» فى طفولته «الوصايا العشر» مثل إخوته من الصبية وتعلم أن يحترمها ويتبعها لأنها أنزلت من السماء على النبى «موسى».
لكنه يذكر أنه كلما كذب كان يجد لنفسه سلوة فى أنه لا توجد وصية تحرم الكذب إلا فى شهادة الزور فقط أمام المحاكم موقعا الضرر بجاره.
ما أن اشتد عوده حتى بدأ يشعر «أن قانونًا أخلاقيًا لا يحرم الكذب» فى حاجة إلى إضافة.
على أن المفاجأة التى أصابته بالذهول أنه وهو مستشرق مبتدئ اكتشف «أن المصريين كان لهم مقياس خلقى يتمتع بالرقى والسمو قبل «الوصايا العشر» بألف سنة».
جيمس هو جيمس هنرى بريستد باحث أمريكى تخصص فى جمع النصوص المنقوشة على المعابد الفرعونية التى تثبت أن المصريين أول من عرفوا الفرق بين الصواب والخطأ وبين الحق والباطل وبين الصدق والكذب وبين الرحمة والقسوة وبين العدل والظلم وبين المدنية والوحشية.
باختصار ولد ضمير البشرية فى مصر قبل أن يبعث الرسل بمئات السنين.
أسند بريستد اكتشافه بأدلة لا حصر لها وضعها فى كتابه «فجر الضمير» الذى صدر فى عام ١٩٣٣ وترجمه شيخ الآثاريين سليم حسن فى ١٩٥٦ ليضاف إلى قائمة الكتب التى يجب على المثقف قراءتها وإلا فقد اللقب.
فى منتصف الألف الرابعة قبل الميلاد شهدت مدينة منف (العاصمة القديمة على بعد ٢٠ كيلومترًا من الجيزة) مسرحية تشيد بسيادتها وحكمتها وعدالتها التى لا تفرق بين أمير وفقير ولا بين كاهن وعابد.
بل أكثر من ذلك تشير المسرحية إلى وجود إله يهب الحياة للطيب ويقدر الموت للخبيث وعندما تقوم الساعة سيحاسب كل شخص فى محكمة «الحياة الآخرة» التى تمنحه الحق فى الدفاع عن نفسه ليظهر براءة نفسه.
وفى مجمع الآلهة الذين حظوا بالقداسة تقف «ماعت» ربة العدالة والفضيلة فى الصدارة.
وعندما سقط النظام الأخلاقى وظهر المجتمع الفاسد المنحل الذى جاء بعد عصر الأهرام لم يتردد حكماء الأمة فى الضغط على الملك لتطهير البلاد وفى الوقت نفسه بشروا بـقدوم «المخلص» الذى يقيم العدالة بين جميع بنى البشر.
تلخصت رسالتهم فى جمل واضحة محددة: «لا حضارة بلا عدالة» و«الضمير الغائب لا يأتى بإنسان تائب» و«الفساد فى الحياة المدنية يعيد الأمة إلى عصور الوحشية».
عندما عين «عمر الغبرا» وزيرا للنقل فى حكومة «جاستن ترود» الكندية عبر عن وصوله للمنصب بهز كتفه راقصا على أغنية عراقية شهيرة.
«الغبرا» سورى الأصل ولد فى السعودية عام ١٩٦٩ حين كان والده يعمل هناك وما أن حصل على الثانوية العامة حتى سافر لدراسة الهندسة الميكانيكية فى كندا.
لكنه لم يكتف بالشهادة الجامعية وإنما اقتحم الحياة الحزبية والسياسية ونجح فى تجميع أصوات المهاجرين العرب ليصل إلى البرلمان ومنه إلى الوزارة.
على أنه لم يرد الدين إلى الجالية المصرية التى صوتت له فى الانتخابات التشريعية التى قادته إلى الوزارة فى يناير ٢٠٢١.
ما أن بدأت الدول فى التحذير من متحور كورونا (أو ميكرون) حتى وضع الغبرا ثمانى دول إفريقية فى القائمة الحمراء ومنع مواطنيها من دخول كندا ــ ابتداءً من أول ديسمبر ــ إلا إذا كانوا يحملون الجنسية الكندية أو لديهم إقامة دائمة فيها.
ولكن فى اليوم التالى أضاف مصر إلى القائمة.
على أنه لم يعترف بالشهادات التى يحملها من حقنوا باللقاح فى مصر مهما كان نوعه بل عليهم إجراء فحص (بى سى آر) قبل ركوب الطائرة على أن يتكرر الفحص ذاته فى مطار الوصول الكندى ويعاد للمرة الثالثة فى اليوم التالى.
وكل ذلك مقبول.
لكن غير المقبول ألا يعترف بنتيجة تحليل (بى سى آر) الذى تجريه المعامل المصرية ويشترط إجراءه فى معامل دولة أخرى قبل ركوب الطائرة والعودة إلى كندا.
فى تلك اللحظة أوقفت الرحلات المباشرة بين القاهرة ومونتريال فطاقم طائرات «مصر للطيران» لا يحمل إلا شهادات صحية مصرية ونتائج تحاليل (بى سى آر) التى يحملها جرت فى معامل مصرية وليس منطقيا بالقطع أن يهبط الطاقم ترانزيت فى دولة ثالثة مصدقة ليجرى الفحوصات المطلوبة بالشروط الكندية.
أما المصريون الكنديون فلم يكن أمامهم سوى تغيير تذاكر السفر أو تحويلها إلى خطوط طيران أخرى بحيث يتوقفون فى دولة على الطريق لإجراء المسحة وانتظار نتيجتها قبل السفر إلى كندا.
بسرعة استغلت دول فى المنطقة منها تركيا الفرصة وزودت مطارها الدولى بأجهزة تحليل لمسحة كورونا تظهر نتائجها بعد ست ساعات فقط يمكن أن ينتظرها المسافر دون تكلفة إضافية بل عدلت من مواعيد طائراتها بحيث تحمل القادمين من القاهرة إلى حيث يريدون.
ولو كانت التكلفة المالية تهون فإن التكلفة النفسية لا تهون.
لكن علينا أن نعترف بأن من حق الغبرا أن يضع القواعد التى يراها مناسبة لحماية بلاده من جائحة كورونا وتحويراتها طبقا للمصلحة العامة التى أقسم على حمايتها.
هذه حقيقة مقبولة.
أما الحقيقة المؤلمة فهى أن بعضا من المعامل الخالية من الضمير أصدرت نتائج لمسحة «بى سى آر» غير موثوق فيها حسب ما نشر على شبكات التواصل الاجتماعى.
بل أكثر من ذلك زورت الشهادت الصحية التى تصدرها وزارة الصحة لمن تلقوا اللقاح حسب ما نشرت الصحف.
يوم الجمعة ٩ إبريل ٢٠٢١ نشرت جريدة «اليوم السابع» خبر القبض على عاطل يزور تلك الشهادات مشتركا مع موظف صغير فى مكتب صحة القليوبية.
ويوم الأربعاء ٢٢ سبتمبر حذرت وزارة الصحة المسافرين من التعامل مع مزورى الشهادات وأكدت أن العقوبة تصل إلى عشر سنوات سجنًا.
وفى يوم الثلاثاء ١٧ نوفمبر صدرت فتوى شرعية من «دار الإفتاء» تنص على أن تزوير شهادات تلقى لقاح كورونا محرم شرعا «لما اشتمل عليه من كذب ومفسدة ويوقع بالإثم على صاحبه وعلى من زورها له».
ولا شك أن تلك الأخبار وصلت إلى الغبرا وتأكد من صحتها وكان ما كان.
هناك جرائم مهما كبرت لا يتجاوز أثرها عقاب مرتكبها.
وهناك جرائم مهما صغرت يتجاوز أثرها عقاب مرتكبها.
القاتل الذى أزهق روحا يعدم متحملا وحده ما جنت يديه والموظف المختلس يفقد حريته فى السجن ولكن مزور العملة يؤثر فى الاقتصاد الوطنى ومزور الشهادات الصحية يضاعف من القيود المفروضة على المصريين فى السفر إلى الخارج فى ظل الجائحة المتحورة والمثيرة للقلق ويؤثر فى سمعة معاملنا ومستشفياتنا ومراكزنا الطبية.
إن ضميرًا واحدًا بلا حياء يكلفنا جميعا الكثير من الكبرياء.
إن تكاسل المسئول عن تطهير فصول المدارس أو قاعات الجامعة أو عربات المترو أو مكاتب الموظفين يمكن أن يضعنا فى كارثة تتجاوز عقوبة الإهمال.
وعدم انضباط المتحكمين فى سير القطارات غالبا ما ينتهى إلى جريمة قتل جماعية لا يكفى إعدام المسئول عنها مرة واحدة.
وتعرف هذه النوعية من الجرائم بجرائم الضمير العام الفاسد مثلها مثل جرائم نهب البنوك والتحرش بالنساء والنصب على السياح وإثارة الفتن الطائفية أيضا.
جرائم تجعلنا نتساءل عما جرى للضمير العام الذى ولد فى بلادنا قبل التاريخ وفى وقت كانت فيه أوروبا تعيش فى العصر الحجرى وتأكل قبائلها لحم بعضها البعض.
إن الحضارة الفرعونية ليست مجرد حجارة بنيت بها المعابد ونحتت منها التماثيل وارتفعت بها الأهرام وإنما هى القيم الأخلاقية التى توصلت إليها قبل أن تأتى بها الرسالات.
حضارة تعتبر فضيلة الرجل المستقيم أحب (عند الله) من ثور الرجل الظالم الذى يذبحه على باب المعبد وتعترف بأن من يقيم العدل لايمحى اسمه على مر السنين وتؤكد أنه مهما طال الزمن فإن العدالة ستعود إلى مكانها والظلم ينفى من الأرض.
إن الدكتور خالد عبد الغفار (وزير التعليم العالى والقائم بأعمال وزير الصحة) يقدر على حل المشكلة مع السلطات الكندية بأن يترك لها تحديد معامل بعينها تثق فيها لا تقبل بغيرها مثل دولة الإمارات العربية.
لكن تظل مشكلة الضمير العام قائمة وقادرة وقاتلة.
هناك بالقطع ثقوب فى الضمير العام على حد وصف الدكتور أحمد عكاشة.
ترى هل سنهتم بها؟ هل سنسدها؟ هل سنعالجها؟ أم سنواصل دفع ثمنها غاليا؟.