زاهي حواس يكتب:طريق الآلهة.. والاحتفال العظيم

الفجر الفني

زاهي حواس
زاهي حواس


احتفلت مصر واحتفل العالم كله معها بانتهاء العمل فى واحد من أهم وأكبر المشروعات الأثرية فى الربع الأول من القرن الواحد والعشرين، وهو إحياء طريق الآلهة أو ما يعرف اصطلاحا بـ«طريق الكباش». وعلى قدر أهمية الحدث كان الحفل عالميا راقيا، جعل مدينة الأقصر تتصدر المشهد، خاصة بعد حضور رأس الدولة - الرئيس عبدالفتاح السيسى - حفل إحياء طريق الكباش. إن حضور الرئيس عبدالفتاح السيسى إلى مدينة الأقصر للاحتفال بإحياء أثر من آثارها هو أعظم رسالة للعالم بأن مصر، التى حملت مشعل الحضارة قديما لتنير طريقا للإنسانية كلها، تحافظ على إرثها الحضارى ولا تفرط فى أثر من آثارها. هذا من جانب، أما من جانب آخر فلقد نالت مصر كثيرا من إعجاب دول العالم التى رأت مصر كالعروس ليلة زفافها بكل هذا البهاء والعظمة والمجد الذى تنطق به آثارها، بينما - وفى نفس التوقيت - ترى من ناصبوها العداء وتخيلوا أنهم قادرون على حرمانها من مياه نهر ظل يغدق عليها منذ مولده وقبل آلاف السنين من وجود دولتهم - وهم يوشكون على الانهيار فى حرب أهلية - ندعو الله أن يجنب شعبهم ويلاتها، وأن يعودوا إلى صوابهم ويراعوا حقوق الجار والشقيق.

تحية حب وتقدير للوزير الهادئ المحترم الدكتور خالد العنانى، وزير السياحة والآثار، الذى قدم لنا هذه السيمفونية الرائعة، فكان الحفل على قدر الحدث. ولقد قامت وزارة السياحة والآثار بالتعاقد مع شركة سعدى وجوهر لعمل احتفالية عالمية تليق بالمناسبة المحتفل بها وهى إحياء طريق الكباش الذى يربط بين معبدى الكرنك والأقصر، كما يليق بمكان الحدث وهو مدينة الأقصر ـ أكبر متحف مفتوح فى العالم، وبالفعل كانت احتفالية تعكس ما وصلت إليه مصر من رقى وتقدم بعد سنوات قليلة من فوضى مدمرة كادت تعصف بالبلد الحضارى العظيم. لقد شهدت الأقصر، على مدار الأشهر الماضية، أعمالا غير مسبوقة من كافة أجهزة الدولة، إلى جانب عمل وتدريبات مستمرة ليل نهار لمئات الفنانين والفنانات يسابقون الزمن ليقدموا لنا حفلا مبهرا من إضاءة وموسيقى ورقصات وأناشيد فرعونية لإحياء مجد الأقصر القديم، ونعنى به يوم خروج الموكب المقدس لسيد آلهة مصر القديمة ـ آمون ـ من معبده بالكرنك إلى معبد الأقصر، ويختلط مجد الماضى القديم بترانيمه وأناشيده بنسيم الماضى القريب عندما غنى المطرب الأصيل محمد العزبى رائعته الخالدة «الأقصر بلدنا»، ورقصت عليها فرقة رضا بقيادة مؤسسها العبقرى محمود رضا، لكننا سمعنا الأغنية بشكل مهيب وبتوزيع أوركسترالى، وسمعها العالم معنا لأول مرة.



أيقنت أن هناك اهتماما خاصا من الرئيس عبدالفتاح السيسى بهذا الحدث، ورغبة حقيقية فى تصدير صورة حضارية حقيقية عن مصر التى تسابق الزمن الآن للخروج من أزمات عقود طويلة مضت إلى مستقبل يليق بمكانتها الحضارية والثقافية. ويخطئ من يتصور أن ما حدث مجرد حفل عادى فى مناسبة عادية!. إنها رسالة قوية للعالم الخارجى أن مصر تهتم بالحفاظ على تراثها الأثرى، وأن البلد الذى ينظم حفلا بهذا الشكل هو بلد آمن مستقر. هذه هى الصورة الذهنية التى صدرناها للعالم عن مصر، لكى تصبح المقصد السياحى العالمى الأول، لذلك يجب على كل مصرى أن يفخر بقيادته السياسية التى تضع مصلحة مصر وشعبها فوق كل اعتبار.

للأسف الشديد تجرأ البعض على نسب الفضل إلى أنفسهم، زاعمين أنهم أول من بدأوا العمل فى مشروع إحياء طريق الكباش!.. إن التاريخ يسجل الأحداث ولا يخطئ، ولن ينسب الفضل سوى لأصحابه الحقيقيين، ولن ينال أحد من مجهود آلاف الأثريين والمرممين المصريين. والآن تعالوا معى لقصة طريق الكباش منذ البداية قبل آلاف السنين لنعرف الحقيقة.



يعود الفضل فى إنشاء طريق الكباش إلى الملكة حتشبسوت ومهندسها المعمارى العبقرى سنموت الذى قام بنصب تماثيل للملكة على هيئة أبوالهول، وكذلك بناء المقاصير والاستراحات على طول المسافة التى تفصل بين معبدى الكرنك والأقصر. ولا نعلم، على وجه التحديد، إلى أى مدى انتهى مشروع الملكة حتشبسوت، ولكن من المؤكد أن مشروعا طموحا بدأ فى عصر الملك أمنحتب الثالث، الذى كان يأمل فى إنشاء طريق احتفالى يربط بين معبدى الكرنك والأقصر، ولكن المشروع تعثر ثم توقف فى عصر الملك أخناتون لأسباب نعلمها جميعا وهى عداؤه الشديد لكهنة آمون، ولعبادة آمون من الأساس، وندائه إلى دين واحد تحت لواء أتون، رب الشمس، ويقال إن أخناتون أمر رجاله بقطع رؤوس الكباش التى كانت موجودة فى عهدة، ولكن لا يوجد دليل أثرى على أنه فعل ذلك حقا. وفى عهد ابنه ـ توت عنخ آمون ـ أعيد العمل فى استكمال طريق الاحتفالات، وقام الملك توت بنصب العديد من تماثيله على جانبى الطريق، ولكن للأسف تم اغتصاب تماثيل توت عنخ آمون ونسبها إلى ملوك آخرين.



أما عن الطريق الحالى فهو يعود إلى عصر الملك نختنبو الأول من عصر الأسرة الثلاثين ـ آخر الأسرات الفرعونية. ويصل طول الطريق إلى حوالى ٢٧٠٠ متر، وعرض ٧٦ مترا. وعلى الرغم من أن طريق الاحتفالات هذا كان مكتملا لقرون طويلة من التاريخ القديم، إلا أن الاحتفال بعيد الأوبت الشهير ظل يعتمد بشكل كبير على نهر النيل نظرا لسهولة الإبحار فيه ذهابا وإيابا من الكرنك إلى الأقصر والعودة. وتؤكد مناظر عيد الأوبت المنقوشة على جدران صالة الأربعة عشر عمود من عصر توت عنخ آمون، أن مراسم خروج موكب آمون من الكرنك إلى الأقصر كانت تسلك طريق النهر، فيوضع المركب المقدس لآمون (مركب رمزى) وبصحبته مراكب زوجته موت وابنة خنسو على ظهر مراكب نيلية مهيبة تبحر بها إلى الأقصر، لكى يتحد آمون الكرنك بهيئته القديمة ـ آمون كا موت اف ـ أو آمون فحل أمه، وهذا الاتحاد السنوى بين آمون الكرنك وآمون الأقصر من شأنه أن يجدد طاقة آمون، ويمنحه الطاقة والخصوبة التى ترتبط بها قوة البلاد وخصوبتها. كانت مراسم الاحتفال بعيد الأوبت تستمر لمدة أحد عشر يوما خلال عصر الأسرة الثامنة عشرة، وسبعة عشر يوما فى الأسرة التاسعة عشرة، ووصلت أيام الاحتفال إلى سبعة وعشرين يوما خلال الأسرة العشرين.

أما عن موضوع الربط بين عيد الأوبت الفرعونى ومولد سيدى أبوالحجاج، فكان هذا موضوع رسالة دكتوراة لزميلة لى فى جامعة بنسلفانيا. جاءت وعاشت فى الأقصر لمدة عام تدرس فيه عيد الأوبت المصرى القديم، ومولد أبوالحجاج، وقامت بعمل فيلم وثائقى رائع عرض هذا الأسبوع فى قاعة إيوارت بالجامعة الأمريكية، وفيه نرى المنظر القديم المسجل على جدران المعابد مثل خروج المراكب الثلاثة لآمون وموت وخنسو محمولة على أكتاف الكهنة، يقابله منظر خروج ثلاثة مراكب من مسجد أبوالحجاج محمولة على أكتاف الشيوخ الذين يرتدون الملابس البيضاء الناصعة وهم ينشدون ويبتهلون. وترى أهالى الأقصر وهم يرمون الورود على موكب أبوالحجاج، مثلما كان أجدادهم يفعلون أثناء مرور موكب آمون.

شهد طريق الكباش أيام مجد وشهرة مثل ذلك اليوم الذى مشت فيه ملكة الشرق الأدنى القديم كليوباترا وهى تتأبط ذراع أقوى رجل على الأرض ـ يوليوس قيصرـ فكان الجمال والقوة يمشيان معا على طريق الكباش. وخلال العصر الرومانى تم إنشاء مصنع ضخم للنبيذ على جزء من الطريق، إلى جانب منشآت أخرى. ويستمر الاعتداء على حرمة الطريق بالبناء عليه فى العصر الحديث، حيث أصبحت منازل الأهالى تخفى معالم الطريق.

عندما توليت منصب الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار قررت القيام بوضع تصور شامل لمدينة الأقصر شرقا وغربا، وقمت بعرضه على فاروق حسنى، وزير الثقافة فى ذلك الوقت ورئيس المجلس الأعلى للآثار. وكانت الخطوة التالية مخاطبة اللواء سمير فرج، الذى كان وقتها رئيس المجلس الأعلى لمدينة الأقصر، وطلبت منه إزالة كل الإشغالات الموجودة على الطريق. وقد استطاع سمير فرج أن يزيل العديد من المساكن والإشغالات من فوق طريق الكباش، وكذلك من قرى القرنة غرب الأقصر. وللأسف الشديد لا يزال البعض يسكن فوق المقابر إلى الآن على الرغم من أننا دفعنا ٥٢ مليون جنيه من ميزانية المجلس الأعلى للآثار كتعويضات لمحافظة الأقصر، وكان السبب فى وقف المخطط الرئيسى هو ما حدث خلال «فوضى» يناير ٢٠١١.

بدأنا أعمال حفائر ضخمة على طول الطريق، الذى لم يعمل به أثرى أجنبى واحد من قبل. كان زكريا غنيم هو من اكتشف طريق الكباش فى عام ١٩٤٩. استكمل بعده الدكتور محمد عبدالقادر أعمال الحفائر فى ١٩٥٨، ثم تلاه الدكتور محمود عبدالرازق عام ١٩٦١. وقام الدكتور محمد الصغير بآخر أعمال حفائر فى عام ١٩٨٤. وكان الطريق قد صدر له قرار رئيس الجمهورية فى عصر الرئيس جمال عبدالناصر، رقم ٤٤١ باعتباره منافع عامة آثار. وبدأنا العمل فى عام ٢٠٠٥، وقد أسندت مهمة الإشراف إلى الدكتور صبرى عبدالعزيز، ومعه الفنان الدكتور محمود مبروك، والأثرى الدكتور منصور بريك. وقد عمل بمشروع إحياء طريق الكباش أكثر من خمسين أثريا ومرمما مصريا، ومئات العمال. وكان الفنان فاروق حسنى، وزير الثقافة فى ذلك الوقت ورئيس المجلس الأعلى للآثار، مهتما بهذا المشروع ومتابعا لكل تفاصيله. انتهت أعمال الحفائر والترميم الرئيسية فى عام ٢٠١٢ بطول ٢٤٠٠ متر من الطريق، والذى تم تقسيمه إلى ثمانية قطاعات. وقد ظلت هناك مساحة بطول ٣٠٠ متر فقط، لم ينته العمل فيها لوجود كنيسة حديثة فى مسار الطريق تمت إزالتها منذ وقت قريب، وأخرى قديمة تركت فى مكانها، ويعمل المجلس الأعلى للآثار حاليا فى تلك المنطقة.

من أجمل مراسم عيد الأوبت أنشودة مصرية قديمة خلدها الفنان المصرى القديم على جدران معبد الأقصر خلال عصر الملك الذهبى توت عنخ آمون، تقول كلماتها:

«إلى هؤلاء الذين يمرون على الطريق.. وهناك مكان للشرب.. وهناك مجالس للسمر.. تعالوا معنا نشرب ونغنى.. تعالوا نحب آمون الإله». عندما قامت إليزابيث ويكيت بإخراج فيلم عيد الأوبت مع مولد سيدى أبوالحجاج، أطلقت على الفيلم اسم «For Those Who Sail To Heaven» بمعنى «إلى هؤلاء الذين يبحرون إلى السماء».

المقال: نقلًا عن (المصري اليوم).