عادل حمودة يكتب: حكايات مليارديرات فى مصر 7.. الحقيقة بين حامل الحقيبة وحامل الفضيحة! (قصص واقعية)
لم يحتمل عبدالغفار الفضيحة والطرد من الخارجية والحكم عليه بالمؤبد ودخل الحمام وقطع شرايينه وقبل أن تحمله سيارة إسعاف مات
أول من استفاد منه شاهين كان رجل أعمال خليجى عرفته مجتمعات القاهرة يدير شركة قابضة ناحجة تسيطر على شركات سمسرة وشركات إدارة أصول مالية وشركات تعيد هيكلة المشروعات الخاسرة
كانت «نوريتا أكاسيا» تشبه «دونيا ماريا» التى وضع نزار قبانى تاج الغرور المرصع بجواهر الشعر على رأسها:
«تمزقنى دونيا ماريا بعينين أوسع من البادية ووجه عليه شموس بلادى وروعة آفاقها الصاحية».
لكن نوريتا لم تكن بريئة مثل دونيا ولكنها معجونة من نار.. شرهة فى العشق إلى حد النزيف.. شرهة فى الثروة إلى حد السرقة.. وشرهة فى السيطرة حتى نافست فرنشيسكو فرانكو أشهر ديكتاتور فى بلادها.. إسبانيا.
وضعت لنفسها دستورا لم تحد عنه:
«الرغبة هى الشىء الوحيد الذى يبقى المرأة حية».
«خلق الله الذنب حتى نستحق غفرانه».
«أحبى الحب ولا أحب الرجل حتى لا يسيطر علىّ».
«أعشق الأسلحة التى تجرحنى».
«إغراء المرأة فى صوتها لكن عينيها تفضحها».
«عندما أفقد الرغبة لا أحتاج الدنيا».
لكن ما يثير الدهشة أنها صاغت ذلك الدستور قبل أن تتجاوز الخامسة والعشرين من عمرها وبالطبع مشت على حروفه حرفا حرفا.
ورغم صغر سنها فإنها نجحت دون واسطة فى أن تصبح موظفة نشطة لها مستقبل فى إدارة بروتوكول الخارجية الإسبانية.
لكن فى يوم ما من أيام الأسبوع تختاره عشوائيا تتنكر فى صورة امرأة أخرى مختلفة يصعب أكتشاف حقيقتها.
تضع باروكة حمراء على شعرها وتكثف الماكياج على بشرتها وتحشر جسمها فى ثوب ضيق وترفع قامتها بحذاء مدبب عال الكعب وتغطى عينيها بنظارة سوداء.
تترك سيارتها أمام البيت وتستقل «أوبر» وتطلب من السائق توصيلها إلى «سالا سول» الذى يعد واحدا من أغلى نوادى السهر فى مدريد وهى تفضله عن غيره حيث هناك تجد رجال أعمال أجانب غرباء نزواتهم عابرة وإقامتهم سريعة ويشير تابعها الرجل الواقف وراء المشرب على أكثرهم ثراء وسخاء ويحدد من يقدر منهم على دفع ألف دولار فى ليلة واحدة.
فى الصباح تسترد نفسها وتعود إلى قهوتها وثيابها وسياراتها ووظيفتها وشخصيتها الهادئة المحافظة.
ليست مريضة بالفصام وإنما تستمع وتسيطر وتقبض وتعيش حياة مترفة غامضة أخفتها عن العيون بحنكة تتجاوز عمرها.
محارة سمراء يوجعها ضوء الشمس وتضجرها الموسيقى الرومانسية الناعمة وتجن من وحش مختبئ فى جسدها يشعل النار فى أنوثتها ويأكل وسادتها وعندما تعجز عن إطعامه وإرضائه تضرب رأسها فى الحائط حتى تسقط مغشيا عليها وتقوم فزعة من كابوس متكرر يلاحقها ترى نفسها فيه عارية بنصف أنثى ونصف رجل.
امرأة بتلك التركيبة النفسية المعقدة ترى ما مصير رجل يقع فى حجرها؟.
يسهل على كاتب مبتدئ تخيل البداية ولكن يستحيل على كاتب محترف تخيل النهاية والسبب أن المؤلف هذه المرة هو القدر الذى ما أن يبدأ فى رسم شخصياته حتى تجف الأقلام وترفع الصحف وكل ما علينا تتبع أبطاله وترقب مصائرهم.
لنبدأ من يوم وصول مساعد وزير الخارجية شاهين عبدالجبار إلى مدريد للتحقيق فى اختلاسات أتهم فيها سكرتير أول وموظف إدارى وسكرتيرة محلية.
كان السفير فى انتظاره أمام الطائرة واصطحبه فى سيارته إلى فندق ويلنجتون وتركه يستريح وفى التاسعة مساء مر عليه ليصطحبه للسهر فى «سولا سول» وهناك كان ينتظرهما مقاول شهير كان هو من سيسدد الفاتورة.
شاهين عبدالغفار أحد خبراء القانون الدولى فى القواعد المنظمة للعلاقات والحصانات الدبلوماسية التى تنظمها اتفاقيات متعددة وقعت فى فيينا وهافانا بل أكثر من ذلك حسم الجدل حول الحقيبة الدبلوماسية لو اشتبهت الدول المضيفة أن بها ممنوعات.
الحقيبة الدبلوماسية تعبير مجازى يشير إلى حصانة أى مظروف أو طرد أو صندوق مهما كان حجمه أو وزنه أو شكله ــ يخرج من البعثة الدبوماسية أو يأتى إليها من بلادها ــ فلا يفتح ولا يفتش ولا تفرض عليه رسوم جمركية مهما كان بداخله.
فى وقت ما اتفق على أن تشارك السفارة الدول المضيفة فى تفتيش الحقيبة إذا ما شكت فى أنها تحوى ممنوعات ولكن عبدالغفار رفض ذلك وصاغ مبرراته فى بحث رفيع المستوى حفظ للحقيبة حصانتها ونال ترقية استثنائية عنه.
لكن براعته فى تخصصه استحوذت على معظم وقته فهو إما مسافر فى مؤتمر أو يصيغ اتفاقية تتعجلها الحكومة أو يجهز ردا للوزير على استجواب فى البرلمان.
على أن زوجته كانت مستعدة لتقبل انشغاله عنها لكنها لم تتقبل جنونه بالنساء والبوكر خاصة «البوكر» وكان أن طلبت الطلاق وهى مستريحة الضمير وتولت تربية ابنهما الوحيد الذى كبر بعيدا عنه.
فى العشاء أدرك المقاول أهمية عبدالغفار فتقرب منه لعله ينجح معه فيما فشل فيه مع السفير أن ترسو عليه مناقصات تشييد ثلاث سفارات مصرية فى أوروبا ينفذها فرع شركته فى مدريد.
كانت المائدة تشير بوضوح إلى بذخ من يجلسون حولها.. زجاجة نبيذ من عائلة «بوردور بلان».. أطباق «مزة» من الفواجراه والاستاكوزا والكافيار والسوشى.. أطباق رئيسية من سمك السلمون.. وكئوس من براندى «كورفازييه».
ومع موسيقى الفلامنكو توسط عبدالغفار الحلبة وراح يرقص بدق كعبيه محلقا بعيدا عن الأرض.
فى تلك اللحظة وجدت نوريتا إشارة من البارمان ترشحه ليكون رجل الليلة.
وجهت إليه نظراتها وبثت عيناها شفرة الغواية وما أن التقطها حتى سخنت أطرافه وقبل أن يتراجع خوفا على صورته أمام السفير والمقاول وجدهما فى حالة من الثمالة تدفع الزاهد إلى الرذيلة بل إنهما شجعاه على المغامرة.
فى بيتها تبادلا الشراب أكثر مما تبادلا الكلام حتى لا يكشف كل منهما عن شخصيته الحقيقية وما أن دفع ما طلبت جرته إلى فراشها لكن على غير ما اعتادت استغرقت فى النوم واستيقظت منتعشة بل وعلى غير العادة أيضا وجدت نفسها ترغب فى الحديث معه وهما يحتسيان القهوة:
ــ أنت بالفعل فارس من الجنوب.
ــ وأنت وردة قانية من إشبيلية.
ــ هل أنت بالفعل تقترب من الستين؟.
هز رأسه مبتسما وتركها ليعود إلى فندقه ليستحم ويغير ثيابه وجلس فى انتظار السفير ليذهبا إلى وزير الخارجية فى زيارة ودية حسب التقاليد الدبلوماسية.
على الباب الداخلى للوزارة فوجئ عبدالغفار بأن نوريتا تستقبلهما.. لم يتعرف عليها السفير.. لكن عبدالغفار تعرف عليها.. رآها فى الصباح بلا تنكر.. بقيت متماسكة حتى انتهت إجراءات البروتوكول ودخلا إلى مكتب الوزير.
قبل أن يغادرا جاءت نوريتا تحمل هدية رمزية لكل منهما وكما توقع عبدالغفار وجد فى العلبة رقم اسمها ورقم تليفونها وعنوان بيتها.
هل صدقنا أن القدر مؤلف لا يضيع الوقت ويتلاعب بمصير أبطاله دون ثرثرة.
فى الليلة ذاتها التقيا على رصيف مقهى فى شارع «جران» السياحى الذى لا ينام وبعد الفنجان الثانى بدأت نوريتا فى كسر حائط الصمت:
ــ أكيد فوجئت بامرأتين تعيشان معا فى جسد واحد لكنى لست دكتور جيكل الطيب ومسترد هايد الشرير أنا امراة لها فلسفة فى الحياة لا تضر سواها ولعل لعبة القدر التى فرضها علينا فى اليوم الأول لوصولك تخبئ لنا المزيد.
ــ كنت سأمكث هنا أسبوعين لكن سأمدهما إلى شهر لنكتشف خبيئة القدر.
ــ لا تستهتز بعبث القدر ولو شئت أن أكون لك وحدك طوال وجودك هنا فعليك أن تعوضنى عما كنت أكسب ولن أنسى خصم الجملة.
ــ لنبدأ العقد من الليلة.
ــ الليلة سأكون مع أصدقاء يلعبون البوكر فى بيت أحدهم.
ــ لا أصدق ما أسمع منك.
ــ لم؟.
ــ هيا بنا إليهم.
خسر عبدالغفار كل ما كان فى جيبه من مال وانصرف وفى تلك الليلة منحته نوريتا جسدها مجانا.
لم يكن سهلا على عبدالغفار تحويل النقود من حسابه فى بنك «مصر» إلى بنك «أونيكاخا» فهداه القدر إلى الاقتراض من المقاول الذى سارع بسحب خمسين ألف دولار من حساباته المحلية وقدمها إلى عبدالغفار الذى أصر على كتابة إيصال أمانة بالمبلغ متصورا أنه سيسدده من مكاسب الليلة فى القمار.
لم يكن الحظ معه لكن العند الذى يصيب المقامر ركبه فلجأ من جديد إلى المقاول وفى هذه المرة وجد أمامه إيصال أمانة كان عليه توقيعه.
تراكمت الديون على عبدالغفار وفى الوقت نفسه عجز عن ترسية مناقصة السفارات على المقاول وأصبح عليه السداد وإلا خسر وظيفته وسمعته ودخل السجن.
وفى اللحظة التى فكر فيها فى الانتحار جاء إليه المقاول بالحل:
ــ ستعود إلى القاهرة ليوم أو يومين بحجة ما تختارها وأنت تضع فى حقيبتك الدبلوماسية كيلو من الهيروين سأحدد لك من سيتسلمه منك هناك.
صدم عبدالغفار فيما سمع ونالت منه الكوابيس ليلا والهواجس نهارا ولكنه استسلم لما عرض عليه بعد أن حسب كل شىء بالورقة والقلم:
ــ فى الحالتين هو فى موقف جنائى خطير لكن فرصته مع الهيروين أفضل من فرصته مع إيصالات الأمانة فهو سيضعه فى حقيبته المحصنة دبلوماسيا ولن يشك فيه أحد خروجا ودخولا.
نجحت عملية التهريب الأولى فحرق المقاول نصف إيصالات الأمانة ونجحت العملية الثانية وأكمل المقاول حرق ما تبقى منها ونجا عبدالغفور من الجريمتين لكن الطمع أغراه بعملية أخيرة وهو عائد إلى القاهرة يقتسم أرباحها مع المقاول.
فى المطار وجد رئيس مباحث مكافحة المخدرات فى انتظاره وما أن طلب منه فتح حقيبته حتى حاول خداعه مدعيا أن حصانته الدبلوماسية تمنع تفتيشه لكن اللواء المحترف قال ساخرا:
ــ عيب يا جناب السفير الحصانة هناك وليست هنا.
لم يحتمل عبدالغفار الفضيحة والطرد من الخارجية والحكم عليه بالمؤبد ودخل الحمام وقطع شرايينه وقبل أن تحمله سيارة إسعاف مات.
كان هناك ضحية أخرى لم ينسها القدر وربما عبث بكل ما عرفنا من شخصيات ليرسم طريقها بخط أسود واضح وليضعها فى صدارة المسرح لتكون البطل الأهم فى الحكاية.
كان محمد ابن عبدالغفار على وشك نيل درجة الماجستير فى الاقتصاد السياسى عندما وقعت فضيحة أبيه فما كان منه إلا أنه تجاوز اسم «عبدالغفار» واستخدم الاسم التالى ليصبح اسمه محمد شاهين قاسم ووافقه عمه على ما فعل وساعده على الابتعاد عن الفضيحة أن سنوات دراسته كانت فى لندن ولم يكن أبيه يزوره كثيرا.
لكن النصيحة الذهبية التى أوصاه بها عمه أن يحترف لعبة العلاقات العامة ليوسع دائرة معارفه فى مصر وخارجها:
ــ البشر يا محمد هم خميرة الثروة أسعدهم تكسبهم تعاديهم تخسرهم أفعل المقبول والمستحيل لتحصل عليهم.
بعد سنوات قليلة كان شاهين يعرف نحو ألف شخصية مهمة فى مصر والشرق الأوسط والولايات المتحدة ونجح فى السيطرة عليهم بمجاملات اجتماعية متواصلة فى كافة المناسبات ولزم ذلك تجنيد شبكة من العاملين فى الفنادق والمطاعم والمطارات والسفارات.
يرسل زهورا إلى أم وزير فى البحرين داعيا الله أن يشفيها من البرد الذى أصابها فور أن عرف الخبر من ابنها.
ويتصل بمستثمر كويتى وهو فى القاهرة ليهنئه بقدوم حفيده قبل أن يتلقى الرجل النبأ من زوج ابنته.
ويتابع هبوط طائرة سناتور أمريكى بواسطة أحد رجاله فى برج مراقبة مطار القاهرة ليفاجئه منتظرا فى قاعة كبار الزوار قبل أن يحمله فى سيارة بورش إلى فندق سميراميس.
ويحفظ أعياد ميلاد كل رجال الرئيس بلا استثناء ليرسل الزهور إلى من لا يقبل هداياه الثمينة.
لكن أول من استفاد منه شاهين كان رجل أعمال خليجى عرفته مجتمعات القاهرة يدير شركة قابضة ناحجة تسيطر على شركات سمسرة وشركات إدارة أصول مالية وشركات تعيد هيكلة المشروعات الخاسرة وساعده شاهين فى اختيار سياراته وقصره وأثاثه ولم ينس أن يبعث إليه براقصة شهيرة لتستعرض مواهبها أمامه وحده سبع ليال وليكن ما يكن بعد أن تخفت الموسيقى وتطفأ الأنوار.
بعد ستة شهور من التبعية المذلة نجح شاهين فى إقناع صديقه الخليجى بأن يبيع إليه واحدة من الشركات التى يديرها بقرض من أحد البنوك ــ مقابل رشوة ــ على أن يسدده من أرباح الشركة مما صوب سهام الصحافة إلى سمعته وسمعة المقربين منه فقرر صديقه الخليجى العودة إلى بلاده.
أصبح شاهين مالكا لشركة استثمار متعددة الأغراض لكن حجمها لم يكن كافيا لمنافسة شركات رجال أعمال آخرين مثل محمد أبو العنين ومحمد فريد خميس ومحمد شفيق جبر ومحمد منصور وغيرهم.
وطارده سؤالا صعبا:
ــ كيف يصبح ديناصورا فى عالم البيزنس وحجمه فى حديقة الحيوان لم يزد عن حجم ماعز؟.
راح يبحث عن إجابة لدى زملائه من أساتذة الاقتصاد والعلوم السياسية لكنه لم يسمع منهم ما يقنعه فهم من الكتب قادمون وإليها راجعون إلا أنه ذات ليلة كان يسهر فى بيت الدكتور بطرس غالى الكبير وزير الدولة للشئون الخارجية ووجد على مائدة العشاء عضو كونجرس فى لجنة الشئون الخارجية فلم يتردد فى سؤاله:
ــ كيف تؤثر السياسة فى الثروة؟.
ــ أن تكون واحدا من رجالنا الذين نعتمد عليهم.
بهذه الجرأة والسهولة والغطرسة جاءت الإجابة لكنه بعد أن استوعب الصدمة طلب مزيدا من الشرح ونفذ السيناتور له ما طلب:
ــ يا سيدى كثير من الكبار فى السوق المصرية افتتحوا شركات فى مدينة أمريكية ليحصلوا على نصيب من المعونة التى نقدمها إليك.
ــ لم؟.
ــ القانون ينص على أن أموال المعونة لا تنفق إلا على شركات أمريكية.
ــ وكيف سمحتم بتلك الخدعة المكشوفة لكم؟.
ــ هم قدموا إلينا الكثير ونفذوا من سياستنا ما نريد فلا عشاء مجانى كما نقول فى بلادنا.
ــ وهل الفرصة لا تزال متاحة لوافد جديد؟.
ــ نحن فى انتظارك.
سجل شاهين شركة استثمار فى فلوريدا واعتبرها إحدى شركاته القابضة فى القاهرة ونجح فى عقد صفقات ممول من المعونة الأمريكية زادت عن نصف المليار دولار ليصبح ديناصورا تحت التمرين.
فى الوقت نفسه أسس جمعية أهلية تهتم بتوطيد العلاقات بين الدول الكبرى والدول النامية استضافت رؤساء وزارات من آسيا ووزراء خارجية من أوروبا وأعضاء كونجرس من الولايات المتحدة ومولت مؤتمرات إقليمية لمناقشة الثورة الخومينية فى إيران وحرب تحرير الكويت وحضارة البحر المتوسط.
هنا علينا أن نترك مسافة كافية للقدر كى يمارس هوايته فى العبث بمصير أبطاله.
فى مؤتمر حضارة المتوسط شاركت إسبانيا بشخص واحد هو ــ صدق أو لا تصدق ــ نوريتا آكاسيا التى لم تكف عن تأمل شاهين كلما نظرت إليه وفى داخلها شعور لا يكذب بأنها رأته من قبل رغم أنها متأكدة أنها لم تلتق به أبدا بل هى المرة الأولى التى تأتى فيها إلى القاهرة.
بالقطع لعبت الجينات الوراثية لعبتها فى تقرب شاهين من نوريتا بل إنه بالفعل وقع فى غرامها بل أكثر من ذلك عرض عليها الزواج.
كان العرض مغريا خاتم من الماس وسيارة بى إم دبليو وشقة باسمها فى الزمالك وتعويض مالى عن فقدان وظيفتها فى الخارجية الاسبانية.
وجدت نوريتا فى العرض ما يبيض نفسيتها ويمنحها صفحة جديدة فى القاهرة تمزق بعدها صفحتها السوداء فى مدريد.
ويمكن القول إنها مالت إليه بل وربما أحبته ولكن الأهم أنها وافقت بينها وبين نفسها على معاشرته والزواج به إلا أن شيئا ما يحيرها كلما نظرت إليه يجعلها تتريث فى علاقتها به.
على باب الطائرة ودعها قائلا:
ــ سأنتظرك بالثوب الأبيض خلال شهر.
ــ أمنحنى مهلة أكبر للتفكير.
ــ شهر واحد وإذا لم تأت ستجدينى أمامك.
ــ أنت لا تعرف عن حياتى شيئا.
ــ إن عشت فى الماضى سيفوتك الحاضر كونى على طبيعتك.
ــ المشكلة أن لا أحدا منا يعرف طبيعته.
ــ الحياة لا قيمة لها دون مخاطر نندفع إليها طواعية.
ــ لم أفرض على نفسى سوى المخاطر.
ــ أنت لى لا مفر من الاستسلام.
ــ الفارس يخطف ولا يطلب.
ــ الأيام بيننا.
ما أن انتهى المؤتمر حتى وجد دعوة من جهة ما فى واشنطن لتستشيره فى أخطاء نظام حسنى مبارك ولكنه شعر أنه سيقع فى بئر بلا قرار فاكتفى بكشف ما يعرف عن الشخصيات المؤثرة فى النظام عندما عاد إلى القاهرة سارع بطلب مقابلة جمال مبارك بصفته عضوا مؤسسا فى جمعية «المستقبل» التى خططت للتوريث وطوال ساعتين قدم تقريرا مفصلا عن كل ما حدث ومنذ ذلك اليوم أصبح مقربا من ابن الرئيس وتعمد أن يتحدث عنه كثيرا فى المجتمعات المصرية والعربية موحيا أنه يشاركه فى استثمارات متعددة.
يوما بعد يوم بدت شائعة الشراكة بينه وبين جمال مبارك تنتشر وبدت كأنها حقيقة بسبب نزول ابن الرئيس إلى البورصة والترويج لصناديق استثمارية بها كما نشرت صحف بريطانية أنه يساهم مع رجل أعمال من أصل فلسطينى عملا معا فى بنك أوف أمريكا فرع لندن ــ فى شركات ما بدأت فى قبرص وانتهت إلى أحد ملاذات «أوف شور».
أغلب الظن أن تلك الشائعة سهلت حصول شاهين على العديد من التوكيلات الأجنبية وصلت إلى ٢٢ توكيلا للأدوية والنفط والمياه المعدنية ومعدات البناء وسمحت له باقتراض أكثر من مليار جنيه من البنوك تعثر فى سدادها ولكن لا أحدا جرؤ على الحجز عليه خوفا من أن تكون الشائعة حقيقة.
صدقت شركة لها شأنها فى الخليج الشائعة واعتبرتها أمرا واقعا فوافقت على أن تشاركه فى مشروعات متنوعة بالمليارات متصورة أنها لها شريك آخر فى الخفاء هو ابن الرئيس.
وبالفعل تكونت شركة بين المستثمر الخليجى وشاهين الذى حصل على ربع الأسهم مقابل التسهيلات والامتيازات التى ادعى أن جمال مبارك سيوفرها له.
ولكن شيئا ما جعل الطرف الخليجى يتشكك فى وجود جمال مبارك طرفا فى شركات شاهين وهنا تلقيت اتصالا من مسئول كبير وثيق الصلة بالطرف الخليجى يرجو لقائى إذا ما جاء إلى القاهرة ولم أجد ما يمنع ذلك.
جاء الرجل ليقول:
ــ أعرف أنك تهوى معرفة ما يجرى فى الكواليس وأثق فيما تقول فهل صحيح أن جمال مبارك شريك محمد شاهين؟.
أجريت أتصالات عالية المستوى طالبا معرفة الحقيقة وبالمستندات الدامغة ثبت كذب شاهين لكن لا أحدا عاقبه على ما ادعى لتنامى قوته فى واشنطن حيث بدأت مؤسسات سياسية وبحثية تبحث عن الحقيقة الأهم: هل سيرث جمال مبارك حكم مصر؟.
كان شاهين قد ساهم فى تمويل مؤتمر عن مستقبل الديمقراطية فى مصر دعا إليه أحد المراكز المتخصصة فى دراسات الشرق الأوسط وعقدت جلساته فى فندق « ويلاراد « واشنطن وشارك فيها أساتذة علوم سياسية وكتاب كبار فى الصحف والجيل الجديد من قيادات الحزب الوطنى على رأسهم أحمد عز أمين التنظيم.
وفى جلسة حوار مفتوحة بدا أن الحديث عن التوريث سيفرض نفسه ولكن جاءت كلمات الوريث مرنة لا تؤيد ولا ترفض.
طلب الطرف الخليجى من شاهين التنازل عن أسهمه فى المشروعات التى ستقام فى مصر ولكنه طلب أربعة مليارات جنيه دون أن يدفع جنيها واحدا.
هنا أحست الحكومة أن الاستثمارات التى تنتظرها من الطرف الخليجى ستهرب فما كان منها إلا أنها هددت الطرفين بإيقاف المشروع لو لم يصفا ما بينهما.
أدرك شاهين أن الحكومة لو نفذت تهديدها فإن الطرف الآخر سينسحب والشركة التى تجمعهما ستساوى صفرا وعليه القبول بمئات الملايين المعروضة عليه لم ينفق فى سبيلها شبئا وبدت وكأنها مائدة من المال هبطت عليه من السماء.
بتلك اللعبة تجاوزت ثروته المليارى دولار ولكنه لم يهنأ بها بعد أن أصبح هدفا للصحافة التى تساءلت ذات يوم:
«هل هذا الرجل هو ابن السفير المنتحر بعد القبض عليه يهرب مخدرات؟».
لكنه لم يرد بل قرر أن يختفى عن العيون فترة من الزمن حتى تنشغل الصحافة بقضية أخرى ووجد أن الوقت قد حان للسفر وتجديد عرض الزواج على نوريتا وتضاعف حماسه للخروج من البلاد بعد أن وصلت طائرته الخاصة إلى الصالة الرابعة فى مطار القاهرة التى تدرب على قيادتها فى «كليفلاند فلاينج سكول» وحصل على ترخيصه منها.
أتصل بها قائلا:
ــ سأهبط فى منطقة الطائرات الخاصة على أرض مطار باراخاس هل تنتظرينى؟.
لم ترد.
لكنه فوجئ بها تقف بسيارة من الخدمة المميزة على باب الطائرة.
احتضنها فرحا ورتبت على ظهره ومرت بيدها على شعره نزلت إلى رقبته قائلا:
ــ أفتقدتك كثيرا زاد شوقى إليك بعد أن عدت إلى مدريد.
ــ لكنك لم تتصلى بى ولم تردى على اتصالاتى.
ــ أردت أن أنساك ولم أستطع ولكن الغريب أن شيئا ما يجعلنى أحبك وشيئا ما أقوى يشدنى بعيدا عنك.
ــ سأبقى معك حتى أقنعك بالعودة معى زوجة وشريكة حياة.
سأدعوك على العشاء فى بيتى لنكمل حديثنا براحتنا.
نشرت زهور القرنفل الأحمر والبنفسج الإفريقى والكرز فى أركان شقتها.
على المائدة وضعت زجاجة من النبيذ الأبيض إلى جانب أطباق من مزة التاباس الشعبية مثل الزيتون والجبن وقطع السمك المحمر ومكعبات البطاطس الحارة والجمبرى المغطى بالكريمة المملحة والثوم المبشور.
استقبلته بملابس أنيقة محتشمة ولم تفرط فى الشراب أو الطعام لكنها أفرطت فى الكلام:
ــ لا أريد أن أخدعك أنا لم أتزوج من قبل لكنى لست عذراء كما تفضلون النساء فى بلادكم فهل أنا امرأة حمقاء؟.
لم يرد.
واصلت ما بدأت:
ــ أخاف أن أقول ما لدى من أشياء أخاف لو فعلت أن تهجرنى قبل أن تطلبنى لكن لا بد أن أصارحك بأنكم تخاطبون المرأة بالساطور وتحجرون على عواطفها بالسكين وتصادرون أحلامها بالتشهير فى سمعتها ولن أقبل ذلك لو لمستنى غصبا سأقتلك.
ــ لست من ذلك الجيل العتيق الذى يرى المرأة ذبيحة تطرطش دمها عليه وإنما أراها زهرة تنثر عطرها حوله.
ــ لم يخطر ببالك كيف أمتلك شقة فى حى هوبرتاس الراقى وسيارة مرسيدس واستورد ثيابى من باريس والساعة التى حول معصمى من باتريك فيليب والعقد الذى حول رقبتى من اللؤلؤ الحر؟ ترى من أين لموظفة متوسطة المركز كل ذلك؟.
ــ ربما ورثت ثروة؟.
ــ لم أرث سوى جسدى وعليك أن تعرف كيف استثمرته فهل لا تزال مصرا على أن تتزوجنى؟.
لم يرد وخرج إلى الشرفة ليدخن سيجارا.
بالتأكيد صدمته كلماتها وبالتأكيد خاف من صراحتها ولكن بالتأكيد أيضا خاف أن تواجهه بالسؤال ذاته الذى واجهت به نفسها: من أين المليارات التى حصلت عليها؟ هل دفعت فيها ثمنا تخجل من ذكره؟ هل هناك فارق بينى وبينك أم أن الرجال مفضلون على النساء بما أسرفوا؟.
الشرف ليس فقط ذلك الجزء الصغير من جسم المرأة الذى لا تزيد مساحته عن مساحة طابع بريد صغير ولكنه أيضا الصدق الذى يشنق صاحبه والحلال الذى لا يتنازل عنه صاحبه ولو مات جوعا وفقرا ونكدا وكمدا والوفاء الذى يجب الحرص عليه ولو كان الثمن خسارة المال.
لكن أكثر ما طارده فى تلك اللحظات التى لم يتوقعها ولم يستدعها مختارا صور النساء اللاتى دفع بهم إلى الدعارة لتحقيق مصالحه.
ما الفرق بينه وبينها؟.
لو كانت هى عاهرة فهو قواد.
وعندما وصل إلى تلك الدرجة الحرجة من الصراحة وتجاوزها لم يجد مانعا أن يبدأ معها حياة جديدة.
عاد إليها متلهفا كأنه غاب عنها شهورا واحتضنها بقوة قائلا:
ــ أنا وأنت متشابهان نحن مثل خيط الماء نقدر على حفر مجرانا ولو فى الصخر ونطفى النار مهما علت ألسنتها ونلغى الغبار من وجوهنا خلقنا لنكون معا ولو ولد كل منا بعيدا عن الآخر لنستغفر الله على ما ارتكبنا ونتزوج.
ــ بادلته عناقا بعناق وحضنا بحضن وقبلة بقبلة قائلة:
ــ لنتزوج ولنعيش فى القاهرة ولكن هناك شيئا ما يطاردنى كلما نظرت إليك.
ــ يبدو أنك وقعت فى غرامى قبل أن تلتقى بى.
ــ الحقيقة أنك تشبه رجلا آخر من مصر وإن كان أكبر منك سنا.
ــ يخلق من الشبه أربعين كما نقول فى بلادنا.
عادت معه على متن طائرته الخاصة وفى الفيللا التى يمتلكها على جبل المقطم جاء موظف توثيق زواج المصريين والأجانب من الشهر العقارى وسجل العقد.
وخرجا لقضاء السهرة فى مطعم على سطح فندق يطل على النيل ينفرد بعزف موسيقى الجاز التى تدمنها وراحا على واحدة من أجمل أغانيها يرقصان التانجو.
كانت كلمات الأغنية شديدة النعومة:
«لم يبق سوانا فى المطعم.. الموسيقى أصبحت لنا وحدنا.. يدك الممدودة فوق يدى قبة من الحنان.. طفولة وجهك تفرض نفسها على النسيان.. تفرضها على الزمان والمكان.. لنحصل على نصيبنا من الإنسانية مثل كل إنسان».
انتهت الأغنية وانتهت الرقصة وتركا المطعم إلى المصعد وهناك لم يتركهما القدر يهنئان وفجر قنبلته فى الثوانى التى يقطعها المصعد من الدور العلوى حتى الدور الأرضى.
فجأة التفتت نظرت إليه نوريتا وحدقت فيه واندفعت إليه تحتضنه قائلة:
ــ حبيبى الآن تذكرت أنت تشبه الرجل الذى أحدثك عنه كان دبلوماسيا مصريا رفيعا عشت معه أياما قبل أن يخسر أموالا طائلة على مائدة البوكر دفعته إلى تهريب المخدرات وقبض عليه وانتحر حسب ما جاء فى التقرير الذى رفعته إلينا سفارتنا فى القاهرة.
قفزت إلى أعلى فرحة حتى كاد رأسها يرتطم بسقف المصعد.
ــ الآن استرحت فهل تعرفه أو سمعت عنه؟.
لم يرد.
لكنه وجد كل نكد الدنيا مجسما أمام عينيه وسقط فى بئر الماضى البعيد وتابعت الصور أمام عينيه ولم يعد يسمع ما تقول بل لم يسمعها عندما صرخت وهو ينحرف بالسيارة لتهوى مهشمة.
نجيا من الموت بكسور فى عظام ساقيها أما هو فدخل فى غيبوبة استمرت شهرا وعندما عاد إلى وعيه عرف أنه أصبح عاجزا.