د. رشا سمير تكتب: بيانكا بيتسورنو.. الروائية التى حاكت نسيج المجتمع الإيطالى فى “حُلم ماكينة الخياطة”
إيطاليا كانت وستظل دوما هى عنوان الموضة والجمال، هى الكُحل فى عيون النساء الإيطاليات، والكعوب العالية فى خطوات سيدات المجتمع الراقى.. إيطاليا الحُلم..بيوت الأزياء العالمية، الماركات التى أصبحت حديث العالم..وعروض الأزياء فى دولة كتبت تاريخها خيوط النسيج على أقمشة الجوبير والموسلين.. ملابس.. ألوان.. موديلات.. لقطات.. و.. حكايات حكايات ليست ككل حكايات..لقطات من ميلانو وروما..أساطير من فلورنس وفينيسيا..وبدايات من سرديني.
سردينيا تلك البقعة التى اعتبرها المستشرقون واحدة من أكثر الأماكن غموضًا على وجه الأرض..والتى يعود تاريخها إلى ٧٣٠ عامًا قبل الميلاد..من تلك البقعة الغامضة التاريخية فى إيطاليا التقطت الأقلام الحكايات فرويت القصص وسُطرت الروايات.
بين أيدينا اليوم رواية مختلفة، لأنها رواية بعيدة عن التصنيف، ليست سياسية ولا اجتماعية ولا حتى رومانسية، بل هى رواية إنسانية.
رواية تروى حالة، حالة من الاختلاف، حالة من العنصرية بين طبقات المجتمع المختلفة فى بدايات القرن التاسع عشر، وما بين الأغنياء والفقراء تقطعت الأوصال وتاه الحُلم، فلم يعد الحُلم متاحا للجميع بل أصبح مقصورا على فئة بعينها، هى الطبقة الأرستقراطية.
إنها رواية «حلم ماكينة الخياطة» للكاتبة الإيطالية بيانكا بيتسورنو (Bianca Pitzorno) البالغة من العمر ٧٩ عاما، والتى تُعد من أهم الكتاب الإيطاليين، الرواية متوفرة فى ترجمتها العربية الصادرة حديثًا عن منشورات المتوسط فى ٢٥٥ صفحة.
دار نشر المتوسط التى تأسست فى نهاية عام ٢٠١٥ فى ميلانو بإيطاليا، كمشروع من مشاريع جمعية «المتوسط» التى تهتم بمشروع التبادل الثقافى بين مختلف حضارات العالم وشعوبه، وقد تأسست فى ميلانو من قبل عرب وإيطاليِّين مهتمين بالثقافة العربية، فإنها تركّز فى نشر الأدب فى ظاهرة تبادل فكرى وبين إيطاليا والعالم.
قامت بالترجمة إلى العربية المترجمة المصرية والأستاذة الجامعية وفاء عبد الرؤوف البيه وهى التى حصلت على وسام نجمة إيطاليا من رئيس الجمهورية الإيطالية سيرجيو ماتاريلا برتبة فارس لمن يقومون بدور مؤثر فى نشر اللغة والثقافة الإيطالية فى العالم، من أبرز أعمالها «أنطونيو الجميل» لفيتاليانو برانكاتى، و«الكتب الممنوعة» لماريو أنفليزى، و«المسيح توقف عند إيبولى» لكارلو ليفى، و«حُلم ماكينة الخياطة» لبيانكا بيتسورنو، و«الغرفة العائمة» لروبرتو باتسى.
الحقيقة أن الترجمة ناعمة مثل الرواية، سلسلة واستطاعت المترجمة أن تقوم بتوصيل المعنى الضمنى بدقة.
تقول الكاتبة إنها اعتمدت على وقائع حقيقية عرفتها من خلال جدتها ومن قصاصات صحف تلك الفترة الزمنية وأيضا من البطاقات البريدية التى احتفظت بها طويلا فى صندوقها الخاص..تنقل الروائية بكل جرأة وصدق تلك الفترة الزمنية فى بدايات القرن التاسع عشر حيث الأوجاع والفقر والظلم مقصورين على الفقراء، والأحلام مقصورة فقط على طبقة الأغنياء والأرستقراط كما يحلو للتاريخ أن يلقبهم، إنه العصر الذى يئن تحت وطأة التهميش والتصنيف والظلم ضد الفقراء.
الراوى العليم فى هذه الرواية هو الفتاة الخياطة الفقيرة التى ربتها جدتها وعلمتها مهنتها..مهنة حياكة الثياب ورتق عيوب البشر.
تنطلق الرواية من حيث تحكى الشابة قصتها مع ماكينة الخياطة ومع الحرفة التى ورثتها عن جدتها والتى كانت تصطحبها وهى طفلة صغيرة معها لترقب وتتعلم، وتصبح وريثا لتلك الحياة التى عاشتها جدتها يوما ما وأصبح لزاما على الفتاة الصغيرة أن تستكمل الطريق، ومن خلال تلك المهنة البسيطة أصبحت الشابة الصغيرة فى ضيافة منازلُ الطبقات الأرستقراطية بالمجتمع الإيطالى لخياطة الفساتين فى المناسبات المميزة.
«كُنت فى السابعة عندما بدأت جدتى تعهد لى بأبسط لمسات التشطيب على قطع الثياب التى تخيطها فى المنزل لزبوناتها.. بدأت جدتى مُبكرًا للغاية فى وضع الإبرة والخيط فى يدى، وقُصاصات صغيرة من النسيج المُتبقى من عملها. وكمُعلمة ماهرة، كانت تُقدم لى ذلك كلعبة»، أما لقطة متابعتها لماكينة الخياطة وهى تدور كانت بمثابة مستقبلها الذى رسمته دوران عجلة الماكينة وكانت تنتظر حدوثه وكأنها شاهد على الحدث:
«ماكينة خياطة. كانت جدتى تعرف كيف تستخدمها، ولا أدرى أين تعلمت ذلك، وكنت أراقبها مسحورة، بينما تدفع هى الدوَّاسة جيئة وذهابًا وبإيقاع ثابت».
«الجوبير» و«الموسلين» و«الباتيستا»، و«الكتان»، «السِّجاف» تلك هى أنواع الأقمشة والمفردات التى استخدمتها الروائية طوال الوقت وباتت هى الفارق الأكيد والتصنيف لأنواع القماش وأنواع البشر أو بالأدق ولأن الرواية تحمل الطابع النسائى منذ المقدمة التى وصفت بها الروائية نفسها بأنها هى الخياطة..فأنواع النساء فى الرواية هن أصل النسيج.
وكأن الحياة قررت أن تضع بطلتنا (التى لم نتعرف على اسمها طول الرواية) وهو ما أراه تصديرًا رائعًا لفكرة أن ماكينة الخياطة هى البطل الحقيقى للعمل وليس الأشخاص..
ماتت الجدة دون سابق إنذار وتركت الحفيدة فى مهب الريح بمفردها فى اتخاذ أولى القرارات الصعبة وهى إنفاق مدخراتهما المعدومة على جنازة ودفن جدتها لأنها لم ترد أن تواريها فى جبانة الفقراء مثل باقى أفراد أسرتها. تراقبُ بطلة الرواية الجريئة من هذا المكان خلف ماكينة الخياطة قصص وحيوات تتقاطع فى مقاطعة سردينيا..بعد قليل ودون تخطيط مسبق، يتدخل القدر لتتقاطع قصة الخياطة الشابة مع قصص العائلات التى تدخل بيوتهم..
وهنا تدفع الروائية ببراعة وبذكاء مجموعة من البطلات، وكأنهن يتسللن إلى المشهد الدرامى على أطراف أصابعهن..
تقدم بيتسورنو على لسان راويتها الخياطة، نساءً من الطبقة الأرستقراطية يتمحورن جميعا حول حياة الخياطة البسيطة التى تخيط لهن ثيابهن فى مناسبات الزواج والطلاق، نماذج مثل الآنسة إستر الماركيزة المثقّفة والشابة القوية التى تُعلّمها القراءة، ابنة السيد أرتونيزى، السيدة التى كانت بالنسبة إليها نموذج لحُلم، تشرق مع شروق الشمس وتنام بين أحضان القمر،أحبت مرة واحدة فقط، وحين كفرت بالحب أغلقت الباب،لكنها ظلت بنفس الرقة والطيبة والعطف.
سيدات عائلة آل بروفيرا والصحفية الأمريكية، جميعهن نساء متمردات متعلمات مثقفات اللاتى حاولن التمرد فقُتلت أحلامهن حتى لو كان الحُلم مقتصرًا عليهن.
كتبت الخياطة البائسة عن الدرس الذى تعلمته من قصة إستر والتى كان تأثيرها عليها هو التأثير الأقوى بين باقى البطلات تقول:
«بالنسبة إليَّ كان الإحباط عنيفًا، أن أكتشف وبتلك الطريقة، أن الحُبَّ الكبير كان مجرَّد خداع، وأن مكانه الروايات وحدها، وأن الرجال جميعهم خائنون أنانيون، لكننى كنتُ ساذجة إلى حَدِّ أننى كنتُ لا أزال أفكِّر فى الزواج، ليس كترتيب حياتى، بل كتتويج لحُلْم الحُبِّ، وفى هذا الشأن أصابتْنى تجربة الآنسة إستر الحديثة فى مقتل»
ثم تنتقل إلى عائلة بروفيرا بمتاعبهم، بقسوتهم وتعاملهم مع الأمور من منطلق سطوة المال، والآنسة ليلى روز بريسكوى السيدة التى وقعت فى غرام تلك المدينة الهادئة
منزل آل ديلسوربو..مأساة الصحفية ميس بريسكوى..قصص بالغة الروعة والألم.
عندما منحتها الحياة مبلغا من المال فى صورة منحة شهرية تركتها إحدى زبائنها لها، قررت أن تضع المال فى علبة سمتها (علبة الرغبات) وهى التى كانت بمثابة علبة الحُلم، تحاول من خلال تلك العملات النقدية البسيطة أن تغير مستقبلها الذى كتبته عليها الأيام..تمضى الرواية بين أحلام وعثرات، جعلتها تروى لنا مكنون نفسها وتقول: «فى طريق عودتى من المستشفى برفقة أسونتينا المتعلقة بتنورتى، مررت على الجزار، لأشترى فخذ دجاجة للحساء، ثم بائع الحليب، حيث ملأت دورق الحليب الضخم الذى يتسع لترين، وفى النهاية على بائع الخبز، ولأن المظرف فى الدرج الأول من خزانة الأدراج كان فارغا، كان ينبغى أن أسحب قبل أن أخرج، من علبة الرغبات التى كان من الأفضل الآن أن أدعوها علبة الأوهام، ولاحظت أن العملات والأوراق النقدية المخصصة للنثريات لم تكن كثيرة كما صورتها لى أحلامى العبثية».
تظل الخياطة الفقيرة التى تنقلها الأقدار من دور إلى آخر مستترة خلف ستار من الضعف إلى أن تصبح هى شخصيا حكاية، وتصبح حياتها جزءًا من حياة الآخرين.
كانت البطلة تخاف أن يدق قلبها وتسمح لنفسها بأن تحب، وذلك عند ظهور جوديو ذلك الشاب النبيل، الذى حاول أن يغير شيئا فى قواعد ذلك الزمن البالى، وتلك الحرب التى تخوضها للدفاع عن حبها لجويدو ضد دونا ليتشينا.
أوقعها القدر فى طريق جويدو وحاولت أن تتملص من شعورها بالحب الذى بدا له وكأنه شعور بالذنب، فالدرس الذى تعلمته من جدتها ومن نساء دفعن حياتهن ثمنا لحب ممنوع كان ثمنا باهظا، ولكن قلبها لم يمنحها فرصة الاختيار.. فالقلب حين يدق تتوارى كل القصص.
إلا أن نهاية قصة الحب تحمل مفاجأة لم نتوقعها وسأترك للقارئ تلك النهاية حتى يكتشفها بنفسه، حتى لا أقضى على التشويق ومتعة القراءة.
تتوالى الأحداث وتتشابك مصائر الأبطال، وتقدم لنا بيتسورنو بأسلوب سردى مشوق قصة وطن ودروس مستفادة..إنها رواية مكتوبة بحرفية وبقلم عذب ومفردات مختلفة..