بطرس دانيال يكتب: دستور المحبة
يعلّمنا السيد المسيح قائلًا: «فإن أحببَتُم مَنْ يُحبّكُم، فأيُّ فَضْلٍ لكم؟ لأن الخاطئين أنفُسهُم يُحبُّون مَنْ يُحبُّهم» (لوقا ٣٢:٦). إذا قرأنا التاريخ نجد فيه الحديث عن هؤلاء الذين يشوّهون سمعة الآخرين، ويسخرون منهم بدافع من الغيرة والحسد والكراهية. لكن المحبة الحقيقية تدعونا إلى احترام الآخر وقبوله كما هو، وليس كما نريده نحن. مما لا شك فيه أن غالبية الصراعات والحروب والمعارك فى العالم، نتيجة أننا غير قادرين على قبول الآخر لأنه مختلفٌ عنّا، لذلك يجب أن نعى جيدًا بأن كل واحدٍ فى البشرية، له الحق فى أن يؤمن ويعيش حسب دينه ومعتقداته بكل حرية، وأن يصبح ذاته وليس نسخةً منّا، لأن كل إنسانٍ هو فريدٌ من نوعه. يُحكى عن الرئيس الأمريكى لنكولن بعد الحرب الأهلية فى بلاده، ما بين سكان الشمال ذوى البشرة البيضاء وسكان الجنوب ذوى البشرة السوداء، قام بموقف الحَكَم الصادق النزيه، حتى أنه أظهر ما بداخله من العطف فى قضية الزنوج الثائرين، مما تسبب فى انزعاج إحدى السيدات ذات البشرة البيضاء وعاتبته فى الأمر، فابتسم لنكولن لعتابها ابتسامة النفوس الكريمة، والقلوب الصافية، وأصحاب المبادئ الإنسانية السامية، وقال لها: «سيدتى! أليس قضاءٌ على أعدائنا، أن نجعل منهم أصدقاءً مخلصين لنا؟!» فخجلت السيدة، ولم تنطق بكلمةٍ واحدة. مما لا شك فيه، أنه لا سبيل إلى قتل العداوة القابعة فى داخلنا إلا بالحب، لكن البغض لا يولّد إلا الكراهية والحقد والانتقام، ومن المحتمل أن يدفع صاحبه إلى الإجرام، كما نقرأ ونسمع كل يوم عن النتيجة الناجمة عنه. يا له من خزى وعار للجنس البشرى، لأننا نعيش فى عالمٍ مشحون بالخصام والتوتر، ورفض كل مَنْ يختلف معنا سواء فى الدين أو المعتقد أو اللون أو الجنس أو الفكر أو الذوق وغيرها. لأن البغض لا يلحق فقط الضرر بالغير إذ يجعل منه هدفًا لأحكامنا الزائفة بحقه وتحاملنا عليه، ورفض كل ما يقوم به من أعمالٍ مختلفة، أو ما يقدّمه من خير تجاه المجتمع، وتشويه سمعته، والسعى إلى التخلّص منه؛ ولكنه إذا تملّك فى قلبنا، يصبح أيضًا وكأنه سرطان ينهش فينا، وينزع من داخلنا كل العواطف الإنسانية، ويشوش شخصيتنا، ويشوّه كل ما نقوم به من تصرفات، لأنه يختمها بختم الكراهية والحقد والتشفّى، ومِنْ ثمَّ يفسد علينا لذّة الحياة. فإذا كان الحب يبقى ويخلق ويشيّد، فإن البغض يهدم ويفنى ويبيد. يا لها من ينابيع سعادة وصحة تلك التى تغمرنا، فضلًا عن الثواب الإلهى، عندما نقوم بتنفيذ وصية المحبّة التى علّمنا إياها السيد المسيح قائلًا: «سَمِعتُم أنه قيل: «أحْبب قَريبكَ وأبغض عَدُوَّك». أمَّا أنا فأقولُ لكم: أحِبُّوا أعداءَكم وصَلُّوا من أجلِ الذين يضطهدونكم» (متى ٥: ٤٣-٤٤). فالمحبة ليست دستورًا أخلاقيًا فقط للتعايش السلمى فحسب، بل دستور صحى أيضًا، يلتزم بإتباعه كل من يرغب فى أن يعيش سليم الأعصاب، سوىّ النفس. فالسعادة لا تزدهر إلا حيث المحبة وقبول الآخر ونسيان الذات فى سبيل الغير، ولا يشعر قلب الإنسان بالراحة، إلا حين يلتهب فيه الحُب نحو الجميع. وحينذاك فقط يصبح البشر أخوةً، أبناء عائلة بشرية واحدة، فتخيّم السعادة بينهم. لأنه ليس بين الفضائل الإنسانية ما هو أروع وأسمى من محبة الآخرين. إذًا نحن بحاجةٍ لبعضنا البعض مهما اختلفنا فى الثقافة والدين واللون والجنس والمهنة، لأننا نكمّل بعضنا البعض كلٌّ حسب إمكانياته ومواهبه وموارده، وهذا يعتمد على قبول الآخر كما هو، ونتعاون معه من أجل الخير العام. فإن الغِنى الحقيقى لكل واحدٍ منّا، ينبع من هذا الاختلاف، لذلك على جميع المسئولين والمربيين والوالدين أن يزرعوا معنى جمال الغنى الموجود فى الاختلاف والتنوّع بين البشر، فحكمة الله اللامتناهية هى أن يخلقنا بهذا التنوّع، لنستقى منه الروعة والجمال، كما نلمسه فى ألوان الزهور المتنوعة، والآلات الموسيقية العديدة داخل الأوركسترا التى تشجنا بأجمل وأروع النغمات، فكم بالأحرى البشر، عندما يكونون مختلفين ليقدّموا أعظم سيمفونية للحب، ويصنعوا أفضل وأجمل حديقة زهور بألوانها البهيّة المبهجة! لذلك لا يستطيع أن يدّعى أى إنسانٍ بأن الاختلاف يؤدّى إلى خلاف، ولكنه يقودنا إلى الثراء والتناغم والانسجام. فالمحبة الحقيقية تساهم فى بناء مجتمعٍ صحى مؤسس على أساس الاختلاف. ونختم بالقول المأثور: «عبثًا فتشتُ عن نفسى فما استطعت الاهتداء إليها! وفتشتُ عن الله فما لقيتُ جوابًا! ولكنى فتشتُ عن القريب أخى، فوجدتُ معه الله ونفسي!».