عادل حمودة يكتب: تحالف التسعة.. إسقاط آبى أحمد سلمًا أو سلاحًا
واشنطن تتفاوض على إيقاف الحرب وتسليم السلطة إلى حكومة مؤقتة
توقف العمل فى السد بسبب نقص الموارد وضعف الأمن وفوضى العاصمة النظام القادم سيعيد العلاقات الطيبة مع مصر والسودان
«سلما أو سلاحا سيسقط سيسقط».
بتلك الكلمات النارية حددت تسعة فصائل إثيوبية مسلحة موقفها من آبى أحمد بعد توحدها فى «الجبهة المتحدة للقوات الفيدرالية».
احتضنتها الوكالات الأمنية الأمريكية وبثت «رويترز» اجتماعها التأسيسى فى واشنطن على الهواء مباشرة صوتا وصورة.
التحالف الجديد يضم «وحدة عفار الثورية» و«حركة أجاو الديمقراطية» و«جيش تحرير شعب جامبيلا» و«حركة العدالة والحق للشعب الكيمانى» و«حزب كيمانت الديمقراطى» و«جبهة سيداما للتحرير الوطنى» و«مقاومة الدولة الصومالية» و«حركة تحرير بنى شنقول».
واختيار أسماء الفصائل لكلمات مثل التحرير والمقاومة والديمقراطية والعدالة يعنى أنها تعتبر نفسها تحت احتلال ما ــ غير ديمقراطى وغير منصف ــ تجب مقاومته حتى التخلص منه.
وحسب ما أعلنته الجبهة فإنها نسيج من خيوط عرقية وجغرافية ودينية متنوعة تمثل غالبية البشر فى إثيوبيا.
ورغم أنها قبلت التفاوض إلا أنها اشترطت تنازل آبى أحمد عن الحكم قبل الجلوس معه على مائدة واحدة وإن لم يقبل ــ وغالبا لن يقبل ــ فإن القتال لن يتوقف حتى يستسلم أو يقتل أو يفر هاربا.
ولو بقى على قيد الحياة فلا مفر من تسليمه إلى «المحكمة الجنائية الدولية» لتحاسبه على الجرائم التى ارتكبها ضد الإنسانية بوصفه «مجرم حرب».
المشهد نفسه سبق أن تجسد أمام العالم قبل ٣٠ سنة حين تكونت «الجبهة الشعبية الثورية» التى ضمت ١٤ حزبا وفصيلا مسلحا أبرزها حركة تحرير تيجراى أيضا.
كان الهدف مشابها: دخول العاصمة.. إسقاط رأس الدولة.. تغيير الدستور.. إعلان دولة فيدرالية تتكون من تسعة أقاليم.. كل منها له الحق فى تقرير مصيره حتى لو شاء الانفصال.
فى ذلك الوقت كان يحكم إثيوبيا الكولونيل مانجستو هايلى مريام الذى انقلب على الإمبراطور هيلاسى لاسى وأسقط عرشه ودفنه تحت مرحاض فى قصره واتجه يسارا إلى موسكو التى ساندت وجوده ودعمت سلطته بالقمح والسلاح وجنود من كوبا ولكن ما إن بدأ ميخائيل جورباتشوف فى تفكيك الاتحاد السوفيتى حتى تراجعت مساعداته الغذائية والعسكرية ما سهل على الجبهة المعارضة دخول أديس أبابا فى ٢١ مايو ١٩٩١ وقبل إعدام مانجستو هرب طالبا اللجوء السياسى فى زيمبابوى.
سيناريو معتاد.. مكرر.. تنفذ مشاهده على نفس البلاتوه.. لكن.. البطل تغير.
البطل هذه المرة معجب بنفسه.. ضعيف.. مهزوز.. مستعد أن يقتل نصف شعبه حتى يبقى حاكما على أنقاضه.. يتصور نفسه ملهما من السماء.. لا يحاسب نفسه على جرائمه.. يرتكب الأخطاء ويلقى بالمسئولية على غيره.. ويطالب «سمالتو» و«كنالى» و«بريونى» و«زيجنا» وغيرهم من نجوم الموضة بتقليد ثيابه التى يصممها بنفسه.
جاء آبى أحمد إلى الحكم صدفة.
بعد سقوط مانجستو حكم مليس زيناوى إثيوبيا ونجح فى إعادة الاستقرار إليها وساعدها فى الانفتاح على العالم ولكنه فى الوقت نفسه لم يخف صرامته وشدته ولم يتردد فى اعتقال معارضيه وتقييد الحريات ولم يضبط مبتسما إلا مرة واحدة كان يراقص فيها زوجته بمناسبة احتفالات الألفية الجديدة.
فى مساء يوم الاثنين ٢٠ أغسطس ٢٠١٢ توفى عن ٥٧ سنة بسبب عدوى مفاجئة بينما كان يتعافى من مرض آخر فى مستشفى خارج إثيوبيا.
تولى نائبه ديسالين هايلى مريام رئاسة الحكومة ولكنه كان بروتستانتيا وليس أرثوذكسيا وينتمى إلى الأمهرة وليس التيجراى مما اعتبر من مستوى أدنى عرقيا رغم أنه كان من أبرع وزراء الخارجية وفى النهاية وجد نفسه وحيدا مجبرا على إعلان استقالته من المناصب العامة عبر شاشة التليفزيون واختفى فى بيته الريفى.
كان ذلك فى منتصف فبراير ٢٠١٨ حين انفجرت اضطرابات سياسية ومذهبية استمرت شهورا سدت فيها الطرق المؤدية إلى العاصمة وأحرقت إطارات السيارات وعطلت شبكات المواصلات والاتصالات وخرجت قيادات المعارضة من الاعتقالات لتزيد النار اشتعالا.
لم يجد ديسالين الدبلوماسى المهذب مفرا من الانسحاب ليتولى السلطة بعده شخص «ما» لفترة مؤقتة حتى تجرى انتخابات برلمانية تفرز رئيسا شرعيا للحكومة.
وقع الاختيار لتولى «الحكومة المؤقتة» قائد فيلق الأرومو «لما جيا» لكنه تنازل عن المنصب إلى نائبه آبى أحمد ليوصف بأنه «رئيس حكومة بالصدفة».
تولى الحكومة المؤقتة فى ٢٧ مارس ٢٠١٨ ولم يكن عمره ليزيد عن ٤٢ سنة.
ومنذ اليوم الأول فى السلطة تقمص شخصية المنقذ حتى جن به الناس ووضعوا صورته على القمصان وزرعوا أشجارا باسمه وعلقوا كلماته المأثورة على الجدران لكن ذلك لم يدم طويلا.
سرعان ما كشف الرجل عن عنصرية دموية صعب توقعها مع ابتسامته المريحة وكلماته المعسولة ليصبح المؤقت دائما والمظلوم ظالما والضعيف شرسا.
تحت شعار الوحدة أو الاندماج (عنوان كتابه أيضا) قرر إخضاع الأعراق المختلفة بالقوة وبدأ الحرب الأهلية فى إقليم تيجراى مساء يوم ٤ نوفمبر ٢٠٢٠.
لكن السحر انقلب على الساحر.
بعد نحو السنة امتد الغضب المسلح إلى المناطق الاستراتيجية فى إثيوبيا وتضاعفت مساحات التمرد وخلع جنود الجيش ملابسهم وفروا من الخدمة بعد أسر المئات منهم يوميا وهرب ثلث السكان من بيوتهم خوفا على حياتهم ولكن من لم يمت بالرصاص مات من الجوع.
فى الوقت نفسه تصور آبى أحمد أنه يستطيع اللعب على الحبلين فلم يكتف بالتحالف مع الولايات المتحدة وفرنسا وإسرائيل (التى صلى فى أحد معابدها) وإنما استورد سلاحا من إيران وروسيا وتركيا.
أرسل جو بايدن صديقه كريس كونز مبعوثا رسميا إلى إثيوبيا ليوقف ذلك «المتهور» عند حده.
عاد جونز إلى واشنطن ليعلن:
«لن يعود الاستقرار إلى القرن الإفريقى إلا إذا اختفى آبى أحمد من على سطح الحياة السياسية».
«ولو استمر فيما يفعل فإن إثيوبيا مهددة بالانقسام إلى ثمانى دول وهو أمر ليس فى صالح الولايات المتحدة ولا يمكن السكوت عليه».
وأرسل بايدن مبعوثا آخر لبحث مشكلة السد الذى تسبب فى توتر العلاقات بين دول النيل الأزرق فى المنبع والممر والمصب هو جيفرى فيلتمان.
كان ذلك فى ٢٢ إبريل ٢٠٢١ ولكن قبل وصوله إلى أديس أبابا نشر مقالا بعنوان «الأزمة فى إثيوبيا تهدد إفريقيا والشرق الأوسط معا» قال فيه:
«المؤكد أن إثيوبيا بما تفعل تهدد السلم والأمن الدوليين ولكنها فى الوقت نفسه تدفع ثمنا سياسيا وأمنيا وجغرافيا غاليا يكفى أن حدودها الداخلية والخارجية تغيرت بعد تولى آبى أحمد السلطة بشكل واضح».
وطالب فيلتمان واشنطن بالتدخل لـ «إنقاذ إثيوبيا من آبى أحمد».
وسبقه إلى النتيجة نفسها كريس كونز.
ولكن شعوره بجنون العظمة جعل آبى أحمد يتصور أن العالم يتآمر عليه فلم يتردد فى اعتقال ١٦ مراقبا و٧٢ سائقا يعملون فى الأمم المتحدة ولم يستوعب توالى الدول فى تحذير رعاياها فى إثيوبيا وضرورة الرحيل بعيدا عنها.
واستغلت إسرائيل الفرصة وأقنعت خمسة آلاف يهودى إثيوبى بالهجرة إليها.
وفى اليوم الذى أعلنت فيه واشنطن أنها تتفاوض مع آبى أحمد لتسليم السلطة سمحت بإعلان تشكيل الجبهة الأخيرة لتكون بمثابة «حكومة فى المنفى».
فى الوقت نفسه بدأت مراكز الأبحاث الاستراتيجية تدرس تأثير الأزمة على سد النهضة وبدا واضحا أننا أمام مجموعة من الحقائق التى يصعب إنكارها:
إن الموارد المالية التى يحتاجها استكمال بناء السد لم تعد متوفرة بسبب تكاليف الحرب الأهلية والتكالب على شراء الأسلحة المتطورة وتراجع معدلات النمو وضعف حركة التصدير.
ولحالة عدم الاستقرار الأمنى التى تعيش فيها إثيوبيا افتقد العمل فى السد الحماية الأمنية اللازمة.
أكثر من ذلك أن إقليم بنى شنقول الذى يقع فيه السد وتطالب به السودان انضمت جبهة تحريره إلى تحالف التسعة المطالب بتغيير النظام.
رغم أن آبى أحمد أصبح كارتا محترقا إلا أنه سيعطى بالقطع الأولوية للدفاع عن العاصمة قبل أن يفكر فى الدفاع عن السد.
ولو سقط آبى أحمد فإن لا أحد يعرف ما طبيعة النظام الذى سيخلفه إلا أنه سيحتاج إلى دعم إفريقى يجعله يعيد النظر فى الخلافات بين أديس أبابا والخرطوم والقاهرة.
وربما ستكتفى الحكومة القادمة بما بنى من السد مادام يحقق ما تريد من كهرباء.
وبالطبع لو خير آبى أحمد بين حياته والسد سيختار حياته.
«يا روح ما بعدك روح».