منال لاشين تكتب: أخطاء الأطباء وخطايا نظامنا الطبي
نظامنا الطبى عشوائى وحتى الآن ليست لدينا وسيلة لضمان قبول مرضى الطوارئ فى المستشفيات الخاصة
حبس الطبيب المتهم احتياطيا بمجرد تقديم أسرة المريض لبلاغ.. مؤشر خطير
بصراحة تامة تكلفة العلاج الجنونية أفقدت المواطنين التعاطف مع الطبيب أو تقديس مهنة الطب
لو حكيت قصصى وقصص أسرتى والأصدقاء مع أخطاء بعض الأطباء خاصة الكبار منهم، والتعالى الشديد من الباشا الدكتور أو الدكتورة، أو الواسطة التى نحتاجها فى كل خطوة سواء العيادة أو المستشفى لملأت صفحة فى الجريدة أو أكثر. ولكن ذلك لا يعنى أن معظم أطباء مصر جزارون أو فاسدون أو قتلة.
ولذلك وبمناسبة الحديث عن مشروع قانون محاسبة الأطباء، أو مواجهة الأخطاء الطبية. قررت اتخاذ الاتجاه العكسى ودعم آلاف مؤلفة من الأطباء المحترمين من ناحية، وفتح الملف الأخطر وهو نظامنا الطبى من ناحية أخرى.
كانت البداية عندما تقدم بعض النواب بمشروع قانون، وتقدمت نقابة الأطباء بمشروع آخر وسط حشد غاضب على أخطاء بعض الأطباء التى أدت إلى وفاة بعض المرضى، أو إحداث إعاقات بهم.
ومن حيث المبدأ بالطبع الطبيب ينطبق عليه القاعدة العامة (كل جريمة لها عقاب)، وبحسب خطأ أو خطيئة الطبيب يكون العقاب، ولا يجب أن يفوتنا فى المشهد بين قانون النقابة وقانون البرلمان الاحتقان الشعبى ضد الأطباء، واتهام النقابة محاباة أعضائها حتى لو تسببوا فى قتل مريض أو إحداث عاهة مستديمة لمريض آخر. وقد توقفت عند بعض الإجراءات فى هذه القضية المهمة.
لا للحبس الاحتياطي
سأبدأ بإجراء حبس الطبيب المتهم احتياطيا على ذمة القضية. لأن حبس الطبيب احتياطيا لمجرد اتهام أهل المريض فى النيابة له إجراء خطير وغير ضرورى.إجراء خطير لأن أهل المريض المتوفى ليس لهم لا الخبرة ولا الاتزان اللازمين لمعرفة أو حتى التأكد من مسئولية الطبيب أو الفريق الطبى عن الوفاة، وقد عايشت عشرات المواقف المؤلمة بوفاة أهل وأصدقاء وأحباب خلال أو بعد العملية، وعرفت كيف يذهب الحزن بالعقل والمنطق ونعجز عن استيعاب الفقد، فيلجأ البعض تحت تأثير الصدمة إلى اتهام الطبيب.أو ينسى خلال لحظة الفقد الكارثية أن الطبيب أخبر الأسرة بأن العملية خطيرة ولها نسبة محددة للنجاح، وقد حدث ذلك مع بعض أفراد أسرتى، ففى حالة أمى رحمها الله أخبرنا الطبيب الجراح أن العملية التى يمكن أن تعالجها نادرة، واحتمالات نجاحها فى حالة أمى ضعيفة، ونصحنا أن نوفر الفلوس، وسألناه عن حالة أمى إذا لم تجر العملية، فقال بمنتهى الصراحة هتفضل كده لحد ما ربنا يأمر، وكان من الطبيعى أن نختار إجراء العملية بكل خطورته بدلا من ترك أمى تعانى آلامًا مبرحة وشلل وشبه غيبوبة. وبعد العملية بساعات توفيت أمى، وأتذكر أن أول تعليق لشقيقتى المحامية كان (المستشفى والعملية هما السبب فى موت ماما)، ولذلك أرفض أن يكون الحبس الاحتياطى بمجرد اتهام الأهل للطبيب فى بلاغ للنيابة، خاصة فى ظل فوضى السوشيال ميديا، أما السبب الآخر أن الحبس الاحتياطى له مبررات لا توجد فى الغالب فى حالة الطبيب، فالحبس الاحتياطى شرع إما للخوف من هرب المتهم أو تلاعبه بالأدلة، وبوفاة المريض تغل يد الطبيب عن التلاعب فى الأدلة، وحكاية هروب طبيب لخارج البلاد لمجرد اتهامه بقضية مستبعدة، ففى الغالب من يلجأ للهروب هم بعض كبار رجال الأعمال، وليس المهنيين بشكل عام، ولذلك أؤيد الاقتراح بأن يسبق خطوة الحبس الاحتياطى عرض الحالة أو الملف على لجنة متخصصة تقرر بشكل مبدئى مدى أو بالأحرى احتمال مسئولية الطبيب أو الفريق الطبى عن الضرر أو الوفاة، وبعد ذلك يمكن للنيابة العامة أن تقرر الحبس الاحتياطى بناءً عن تقرير مبدئى للجنة، وليس لمجرد بلاغ من الأسرة.
وبالطبع فإن تشكيل اللجنة المنوط بها بالتحقيق الفنى أو الطبى نقطة مفصلية فى أى مشروع قانون، ومن المتوقع وجود خبراء أطباء وقانونيين وصيادلة، ومن البديهى أن يوجد ممثل لنقابة الأطباء فى هذه اللجنة، وأن يكون حضور ممثل آخر من النقابة مع الطبيب المتهم أمام اللجنة وجوبيا، وإذا لم نعط الحماية للأطباء المحترمين والشرفاء فنحن نعرض نظام العلاج فى مصر لمخاطر عدة سيتحملها المريض أولا وأخيرا.
لأن الخوف من الحبس والبهدلة سيدفع الأطباء طلبا للسلامة أن يبتعدوا عن إجراء العمليات التى تحتوى عن نسبة مخاطرة، أو تجربة بعض أساليب العلاج الجديدة المعترف بها عالميا، لأن من شأن هذا أو ذاك أن يعرضه للحبس الاحتياطى والبهدلة.
وفضلا عن جمود طرق العلاج فإن معظم الأطباء الآن يلجأون إلى حيلة (الإقرار المسبق)، ففى الحالات الخطر يكتب المريض أو أحد أفراد أسرته إقرارا قبل إجراء العملية، وهذا الإقرار يؤكد معرفة المريض أو من وقع الإقرار من أسرته بمخاطر العملية وموافقته على إجراء العملية دون مسئولية للطبيب أو المستشفى عن المضاعفات.الآن أصبح معظم الأطباء يطلبون هذا الإقرار فى عمليات بسيطة مثل الزائدة أو اللوز.
نظام عشوائي
من متابعتى لمناقشات فضائية أو إعلامية لهذه القضية الخطيرة فإن التركيز على وفاة بعض المرضى نتيجة أخطاء بعض الأطباء فقط، واختصار أزمة نظامنا الطبى فى مسئولية الطبيب عن وفاة مريض هو اختصار مخل، ولم يؤد إلا لمزيد من شقاء المريض وأسرته، فنظامنا الطبى ما بين حكومى وجامعى وخاص يحتاج إلى نسف النظام أو بالأحرى اللا نظام العشوائى، والاستعانة بخبرات الدول المتقدمة بما فى ذلك بعض الدول العربية لإطلاق نظام طبى يحمى حقوق المريض والفريق الطبى معا، ويضع قواعد صارمة لمنع استغلال المرضى خاصة فى معظم المستشفيات ومعامل التحليل والأشعة الخاصة، ويضمن الحقوق الأساسية للمرضى فى كل المؤسسات الطبية عامة وخاصة، فأبسط حقوق المرضى أن يعرف نوع المرض واحتمالات تطوراته وطرق العلاج المختلفة بإيجابياتها وسلبياتها، ومن حقوقه الرئيسية أن يعرف اسم الطبيب المعالج له، وأن يوقع الطبيب على استمارة المريض الخاصة بأدويته وتشخيص حالته فى حالة التواجد بالمستشفيات.
ومن حقوق المريض أن يعرف تكلفة إجراء العملية الجراحية مسبقا، وألا يفاجأ بزيادة عشرات الآلاف من الجنيهات بعد إجراء العملية أو بالمثل الشعبى (بعد الفاس ما تقع فى الرأس).
ومن حق المرضى ألا ينتظروا بالساعات فى عيادة الباشا الطبيب حتى يأتى من العيادة الأخرى أو المستشفى الخاص، وألا يدفعوا دم قلبهم فى أدوية غالية الثمن أو فواتير مبالغ فيها.
وإذا واجهنا الحقيقة العارية، فإن جانبا من غضب معظم الناس على الأطباء والحنق الذى نشعر به الآن يرجع بنسبة كبيرة إلى المغالاة الشديدة فى تكلفة العلاج، وتراجع صورة الطبيب ملاك الرحمة فى أذهان الكثير، وذلك فى مقابل الطبيب البيزنس مان.
ولذلك أعتقد أننا فى حاجة ماسة لنظام طبى متقدم ومحترم يضمن الرقابة الفعلية على الأطباء وملاك المؤسسات الطبية والصيادلة، نظام يتضمن جهة رقابية لها صفة الضبطية القضائية، ويمكن لأى مواطن اللجوء لها فى أى لحظة لمواجهة تعنت أحد أضلاع النظام الطبى. أما أن يصل بنا الحال لأن يلجأ المواطن للنيابة العامة ليجبر مستشفى للإفراج عن جثة والده فهذه علامة خطر.
نظام فعال
كل دول العالم المتقدم نجحت فى وضع أنظمة طبية تحت مراقبة لجان حكومية أو محلية بسرعة وفاعلية وسهولة. الآن العالم يراقب منح الطبيب الدواء للمرضى من خلال شبكة الإنترنت، ويستطيع الرقيب الحكومى أو النقابى أن يحاسب الطبيب لو تعمد إعطاء دواء غالى الثمن أو دواء يسبب أعراضًا جانبية رغم وجود أدوية أخرى لا تسبب هذه الأعراض، كل ذلك بنقرة على الجهاز ومتابعة عن بعد، فى جميع المستشفيات الخاصة والحكومية يجب أن يشرح الطبيب للمريض حالته والمضاعفات، وأحيانا تتم طباعة هذه المعلومات ومنحها للمريض أو أهله لقراءتها بعمق.
وفى جميع المستشفيات يجب أن تقوم الجهة الرقابية بوضع قواعد واحدة للتعامل مع المرضى.
وقبل أن نكثف غضبنا وقوانينا على مسئولية بعض الأطباء على وفاة مريض أو إصابته بعاهة، علينا أن ننقل بعضًا من هذا الغضب والتشريعات إلى رفض معظم مستشفيات القطاع الخاص إدخال مرضى فى حالة خطرة لأقسام الطوارئ لأنهم لا يملكون المال للعلاج فى هذا المستشفى، وفى العالم المتقدم هناك رقم تليفون (وممكن رسالة على الواتس) تنقل للرقيب المشكلة التى يعانى منها المريض على الفور.يجب أن نتبع مثل هذا الإجراء لمواجهة رفض المستشفيات الخاصة إدخال الحالات الطارئة قسم الطوارئ من خلال شبكة الإنترنت. لأن هذا الرفض يؤدى بسرعة أشد وبعدد أكبر إلى تعريض حياة المريض للخطر وربما وفاته. لأنه لا يجد طريقة لتوصيل صوته أو إجبار المستشفى على تطبيق القانون فى حالة الطوارئ إلا من تقديم شكوى إلى وزارة الصحة فى اليوم التالى، وبعد أن يكون المريض قد توفى.
نحن لا نحتاج فقط لمعاقبة الطبيب المخطئ، نحن يا سادة فى حاجة أن ندخل القرن الواحد والعشرين بنظام طبى حديث، وليس نظامًا قائمًا على العقوبات والجرجرة فى المحاكم فقط.