بطرس دانيال يكتب: الأدب فضيلة إنسانية
يقول بولس الرسول: «أَزيلوا عَنكم كُلِّ شراسةٍ وسُخْطٍ وغضبٍ وصَخَبٍ وشتيمة وكُلَّ ما كانَ سُوءًاَ» (أف ٤:٣١). ذات يوم خرج لويس الخامس عشر ملك فرنسا، وكان بعدُ صغيرًا، للنزهة بصحبة مربيّه، فقابلهما بالقرب من مدخل القصر ماسح أحذية فقير، فقام للتو وأسرع إلى رفع التحية لهما، وللحال ترك المربيّ يد الأمير الصغير ليردّ التحية بكل أدبٍ وأخلاق وابتسامة عذبة فتعجّب الأمير من هذا التصرف قائلًا: «لماذا يا سيدى فعلت هذا وتقوم بتحية مثل هذا الإنسان؟! فأجابه: «مولاى العزيز! أنا أُفَضّل أن أُحيّى خادمًا بسيطًا فقيرًا، من أن أسمع عن خادمٍ فقيرٍ هو أكثر منى أدبًا ولياقة!». يا له من موقف يُعلّمنا جميعًا أن الإنسان العظيم هو الذى يتحلّى بالأخلاق الحميدة واحترام الغير. ما أحوجنا لمثل هذه النماذج الحيّة فى اللياقة والذوق حتى تتعلمها أجيال اليوم. هذا هو دور الأسرة والبيت أولًا وليست المدرسة هى المسؤولة الأولى عن تربية الأبناء، فعندما لا يقوم الآباء والأمهات بتهذيب وتربية أولادهم، ويهملون العناية بهم فى الصغر، مما لا شك فيه أنهم سيندمون على سلوكهم عندما يصلون إلى مرحلة ما. إذًا يجب أن يعلم جيدًا الأهل بأن البيت هو التربة الخصبة التى يمتص منها الأبناء أخلاقهم وطباعهم وتصرفاتهم واحترامهم للغير، لأنه ليس من المعقول أن نعتقد بأن المدرسة ستقوم بتقويم وتصحيح كل ما هو معوج من طباع الأبناء، أو إصلاح ما أفسده الجو العائلى. والأدب هو فضيلة إنسانية مفروضة على الجميع سواء أغنياء أو فقراء، مثقفين أو غير مثقفين، لأن الإنسان مهما ارتفع مستواه الاجتماعى ومركزه وكان متحلّيًا بالأخلاق الحميدة، يبرهن بتصرفه هذا على نُبل أخلاقه وعظمة سلوكه وأدبه الجمّ. لأن الأدب الذى يظهر فى معاملاتنا مع الآخرين من جميع الفئات التى نتقابل معها، دليل على التهذيب السامى والعقل الراجح والقلب المنفتح والمُحب، لأنه ليست قيمة الإنسان الجوهرية فى الشهادات التى حصل عليها، ولا الوظيفة التى يشغلها، ولا الثروة التى يمتلكها؛ بل فى مستوى أخلاقه وأدبه وتهذيبه وتواضع نفسه واحترامه للغير. ليس من المعقول أن يعتقد الأهل بقول البعض: «متى كبر الطفل ونضج، يستطيع أن يكتسب ما يشاء، ويتخلّص مما يكره»، لأنهم سيرتكبون أكبر خطأ بقصد أو دون عندما يعيشون فى جو من الخصومة الدائمة والشجار المتكرر، ولا يبالون بالكذب الذى تعودوا عليه أمام أبنائهم، ولا ينتبهون لاستعمال الكلام البذيء ونهش أعراض الناس فى محيط الأسرة، كما لا يهمهم عدم الاستقامة فى المعاملة، لأن النتيجة ستكون حتمًا تدمير أبنائهم أخلاقيًا وسلوكيًا لأنهم نموا وترعرعوا على غرار والديهم، وسيحترق قلبهم على هذه التصرفات المشينة فى المستقبل ويندمون أشد الندم بعد فوات الآوان. لكن الأخلاق الحسنة والسيرة الفاضلة هما حصيلة التربية الحقيقية فى محيط أسرى صحى، لذلك يجب على الآباء أن يقرنوا الأقوال بالأعمال، ويربّوا رجال المستقبل، ويزرعون فيهم معنى السخاء والعواطف الإنسانية واحترام الغير، ثم يأتى فيما بعد دور المدرسة التى تتابع وتكمّل ما قام به الأهل من تربية وتهذيب، وتسقى هذه التربة الجيدة حتى تثمر أفضل ما فيها من أدب وأخلاق. عندما تقابل رجل غير مهذب خطيب اليونان الشهير ديموسيتن وتطاول عليه بالشتيمة والسُباب، نظر إليه وابتسم ثم قال له: «يا صاحبى، أنا لا أسابق فى ميدان، الغالب فيه شرٌّ من المغلوب». وهكذا يجب أن يكون أدب الإنسان، لأن الذى يعتبر نفسه فائزًا فى ميدان الشتائم والإهانات، إنما يدل على فساد أخلاقه وتربيته، فالرجل الخلوق والمهذب يُظهر فى مثل هذه المواقف فضله وأخلاقه وحُسن معاملاته، لأنه يتغاضى عن الإهانة، وليس كما يعتقد البعض بأنه عاجزٌ ولكن لرحابة صدره ورجاحة عقله. فالإنسان الغير مهذّب إن أهانك فحجّته معه وواضحة أمام الجميع، وأما أنت الخلوق إن كنتَ تردّ له الكيل كيلين، والكلمة عشرة، والصفعة أضعافها؛ فما هو عُذرك؟ لذلك فالإنسان الذى يتحلّى بالأخلاق الحميدة والتربية المستقيمة يجب عليه أن يرتفع بالشخص الغير مهذب. إلى مستوى تهذيبه ونُبل أخلاقه، وخلاف ذلك سينحدر هو شخصيًا إلى مستوى الغير مهذّب. إذًا دور الأهل الرئيسى والجوهرى هو تربية أبنائهم على حُسن السلوك والأخلاق وحُب الآخرين والطبيعة والجمال والترتيب والنظام والحفاظ على النظافة فى كل مكان وزمان حيثما يكونون. ونختم بالمثل الفرنسى: «الأدب لا يكلّف شيئًا، ولكنه يشترى كل شىء».