تفسير الشعراوي لقوله تعالى: {قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا} الآية 78 من سورة يونس
نقدم لكم تفسير الشعراوي لقوله تعالى: {قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا} الآية 78 من سورة يونس ضمن سلسلة تفسير القرآن الكريم للشيخ محمد متولي الشعراوي.
تفسير سورة يونس للشيخ محمد متولي الشعراوي
تفسير الشعراوي للآية 78 من سورة يونس
{قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ(78)}
وهنا نجد سحرة فرعون ينسبون مجيء معجزة تحول العصا إلى حية، ينسبونها لموسى عليه السلام رغم أن موسى عليه السلام قد نسب مجيء المعجزة إلى الله تعالى.
وكان واجب المرسل إليه فرعون وملئه أن ينظر إلى ما جاء به الرسول، لا إلى شخصية الرسول.
ولو قال فرعون لموسى: (جيْءَ بك) لكان معنى ذلك أن فرعون يعلن الإيمان بأن هناك إلهًا أعلى، ولكن فرعون لم يؤمن لحظتها؛ لذلك جاء قوله: {أَجِئْتَنَا} فنسب المجيء على لسان فرعون لموسى عليه السلام.
ولماذا المجيء؟
يقول الحق سبحانه على لسان فرعون وقومه: {أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [يونس: 78].
والالتفات هو تحويل الوجه عن شيء مواجه له، وما دام الإنسان بصدد شيء؛ فكل نظره واتجاهه يكون إليه، وكان قوم فرعون على فساد وضلال، وليس أمامهم إلا ذلك الفساد وذلك الضلال.
وجاء موسى عليه السلام؛ ليصرف وجوههم عن ذلك الفساد والضلال، فقالوا: {أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} [يونس: 78].
وهكذا يكشفون حقيقة موقفهم، فقد كانوا يقلدون آباءهم، والتقليد يريح المقلِّد، فلا يُعْمِل عقله أو فكره في شيء ليقتنع به، ويبني عليه سلوكه.
والمثل العامي يصور هذا الموقف بعمق شديد حين يقول: (مثل الأطرش في الزفة) أي: أن فاقد السمع لا يسمع ما يقال من أي جمهرة، بل يسير مع الناس حيث تسير؛ ولا يعرف له اتجاهًا.
والمقلِّد إنما يعطل فكره، ولا يختار بين البدائل، ولا يميز الصواب ليفعله، ولا يعرف الخطأ فيتجنَّبه.
وفرعون وملؤه كانوا على ضلال، هو نفس ضلال الآباء، والضلال لا يكلف الإنسان تعب التفكير ومشقة الاختيار، بل قد يحقق شهوات عاجلة.
أما تمييز الصواب من الخطأ واتباع منهج السماء، فهو يحجب الشهوة، ويلزم الإنسان بعدم الانفلات عكس الضلال الذي يطيل أمد الشهوة.
إذن: فالمقلد بين حالتين:
الحالة الأولى: أنه لا يُعْمِل عقله، بل يفعل مثل من سبقوه، أو مثل من يحيا بينهم.
والحالة الثانية: أنه رأى أن ما يفعله الناس لا يلزمه بتكليف، ولكن الرسول الذي يأتي إنما يلزمه بمنهج، فلا يكسب على سبيل المثال إلا من حلال، ولا يفعل منكرًا، ولا يذم أحدًا، وهكذا يقيد المنهج حركته، لكن إن اتبع حركة آبائه الضالين، فالحركة تتسع ناحية الشهوات.
ولذلك أقول دائمًا: إن مسألة التقليد هذه يجب أن تلفت إلى قانون التربية، فالنشء ما دام لم يصل إلى البلوغ فأنت تلاحظ أنه بلا ذاتية ويقلد الآباء، لكن فور أن تتكون له ذاتية يبدأ في التمرد، وقد يقول للآباء: أنتم لكم تقاليد قديمة لا تصلح لهذا الزمان، لكن إن تشرَّب النشء القيم الدينية الصحيحة؛ فسيمتثل لقانون الحق، ويحجز نفسه عن الشهوات.
ونحن نجد أبناء الأسر التي لا تتبع منهج الله في تربية الأبناء وهم يعانون من أبنائهم حين يتسلط عليهم أقران السوء، فيتجهون إلى ما يوسع دائرة الشهوات من إدمان وغير ذلك من المفاسد.
لكن أبناء الأسر الملتزمة يراعون منهج الله تعالى؛ فلا يقلدون آحدًا من أهل السوء؛ لأن ضمير الواحد منهم قد عرف التمييز بين الخطأ والصواب.
ثم إن تقليد الآباء قد يجعل الأبناء مجرد نسخ مكررة من آبائهم، أما تدريب وتربية الأبناء على إعمال العقل في كل الأمور، فهذه هي التنشئة التي تتطور بها المجتمعات إلى الأفضل إن اتبع الآباء منهج الله تعالى، وتتكون ذاتية الابن على ضوء منهج الحق سبحانه، فلا يتمرد الابن متهجًا إلى الشر، بل قد يتمرد إلى تطوير الصالح ليزيده صلاحًا.
التقليد إذن يحتاج إلى بحث دقيق؛ لأن الإنسان الذي سوف تقلده، لن يكن مسئولًا عنك؛ لأن الحق سبحانه وتعالى هو القائل: {ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ واخشوا يَوْمًا لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا} [لقمان: 33].
إذن: فأمر الابن يجب أن يكون نابعًا من ذاته، وكذلك أمر الأب، وعلى كل إنسان أن يُعْمِل عقله بين البدائل.
ولذلك تجد القرآن الكريم يقول على ألسنة مَنْ قلَّدوا الآباء: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتبعوا ما أَنزَلَ الله قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ} [البقرة: 170].
ثم يرد عليهم الحق سبحانه: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170].
فإذا كانت المسألة مسألة تقليد، فلماذا يتعلم الابن؟ ولماذا لا ينام الأبناء على الأرض ولا يشترون أسرَّة؟ ولماذا ينجذبون إلى التطور في الأشياء والأدوات التي تسهِّل الحياة؟
فالتقليد هو إلغاء العقل والفكر، وفي إلغائهما إلغاء التطور والتقدم نحو الأفضل.
إذن: فالقرآن يحثنا على أن نستخدم العقل؛ لنختار بين البدائل، وإذا كان المنهج قد جاء من السماء، فَلْتهْتدِ بما جاء لك ممن هو فوقك، وهذا الاهتداء المختار هو السُّمو نحو الحياة الفاضلة.
يقول الحق سبحانه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إلى ما أَنزَلَ الله وَإِلَى الرسول قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ} [المائدة: 104].
أي: أنهم أعلنوا أنهم في غير حاجة للمنهج السماوي فَردَّ عليهم القرآن: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ} [المائدة: 104].
وهكذا نجد أن القرآن قد جاء بموقفين في آيتين مختلفتين عن المقلّدين:
الآية الأولى: هي التي يقول فيها الحق سبحانه وتعالى: {بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170].
والآية الثانية: هي قول الحق سبحانه وتعالى: {حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ} [المائدة: 104].
وهم في هذه الآية أعلنوا الاكتفاء بما كان عليه آباؤهم.
وهناك فارق بين الآيتين، فالعاقل غير من لا يعلم؛ لأن العاقل قادر على الاستنباط، ولكن من لا يعلم فهو يأخذ من استنباط غيره.
إذن: فالذين اكتفوا بما عند آبائهم، وقالوا: {حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ} [المائدة: 104].
هؤلاء هم الذين غالوا في الاعتزاز بما كان عند آبائهم؛ لذلك جاء في آبائهم القول بأنهم لا يعلمون.
أي: ليس لهم فكر ولا علم على الإطلاق، بل يعيشون في ظلمات من الجهل.
وهنا يقول الحق سبحانه على لسان فرعون وقومه: {قالوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الكبريآء فِي الأرض} [يونس: 78].
أي: هل جئت لتصرفنا، وتحوِّل وجوهنا أو وجهتنا أو طريقنا وتأخذنا عن وجهة آبائنا الذين نقلدهم؛ لتأخذ أنت وأخوك الكبرياء في الأرض؟
وهكذا يتضح أنهم يعتقدون أن الكبرياء الذي لهم في الأرض قد تحقق لهم بتقليدهم آباءهم، وهم يحبون الحفاظ عليه، والأمر هنا يشمل نقطتين:
الأولى: هي تَرْكُ ما وجدوا عليه الآباء.
والثانية: هي الكبرياء والعظمة في الأرض.
ومثال ذلك: حين يقول مقاتل لآخر: (ارْمِ سيفك) وهي تختلف عن قوله: (هات سيفك)، فَرَمْيُ السيف تجريد من القوة، لكن أخذ السيف يعني إضافة سيف آخر إلى ما يملكه المقاتل الذي أمر بذلك.
وهم هنا وجدوا في دعوة موسى عليه السلام مصيبة مركبة.
الأولى: هي ترك عقيدة الآباء.
والثانية: هي سلب الكبرياء، أي: السلطة الزمنية والجاه والسيادة والعظمة والائتمار، والمصالح المقضية، فكل واحد من بطانة الفرعون يأخذ حظه حسب اقترابه من الفرعون.
ولذلك أعلنوا عدم الإيمان، وقالوا ما يُنهي به الحق سبحانه الآية الكريمة إلى نحن بصددها: {وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} [يونس: 78].
أي: أن قوم فرعون والملأ أقرُّوا بما حرصوا عليه من مكاسب الدنيا والكبرياء فيها، ورفضوا الإيمان بما جاء به موسى وهارون عليهما السلام.
ويقول الحق سبحانه بعد ذلك: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائتوني}.