بطرس دانيال يكتب: القناعة كنز لا ينضب
يقول بولس الرسول: «لأنَّ حُبَّ المال أصْلُ كلِّ شر، وقد استسلم إليه بعضُ الناس فضَلُّوا عن الإيمان وأصابوا أنفسهم بأوجاعٍ كثيرة» (١تيموتاوس ٦: ١٠). مما لا شك فيه أن طبيعة الإنسان تدفعه إلى حُبّ التملّك والحصول على أكبر قدر من الأموال والأشياء، حتى أن الغالبية العظمى تظن أن الوصول إلى السعادة والطمأنينة والأمان، يعتمد على الغنى واقتناء كل ما يرغب فيه الإنسان. يُحكى عن أحد الأثرياء كان يمتلك مجموعة كبيرة من المصانع والشركات، لاحظ فى إحدى جولاته ورحلاته الترفيهية صيادًا بسيطًا مستلقيًا بجوار المركب المتواضع الخاص به، وكان يُدخّن البايب، فتحيّر فى أمره وسأله: «لماذا لا تبقى مدةً أطول داخل البحر لتصطاد؟» أجابه الصيّاد: «لأننى حصلتُ على القدر الكافى من السمك الذى يُطعم أسرتى»، فسأله مرةً ثانية: «لماذا لا تطمح فى الحصول على كميّة أكبر من تلك التى تحتاج إليها كل يوم؟» رد عليه: «وماذا أفعل بها؟» – «تستطيع أن تربح مالًا أكثر، ثم تشترى به موتورًا للمركب ليساعدك فى الدخول إلى مسافاتٍ أعمق فى البحر وتحصل على كمية أكبر من السمك، وبناءً على ذلك تبيعها لتوفر لك أموالًا كثيرة، ثم تشترى أجود الشباك لتصطاد بها مئة ضعف الذى تحصل عليه كل يوم وتكثر أموالك، وبعدها تقوم بشراء أسطولًا من المراكب، ومِن ثمَّ تصبح من الأثرياء أمثالى»، فقاطعه الصياد بقوله: «وماذا أفعل بعد كل هذا؟» أجابه: «تستطيع أن تستريح لتتمتع بالحياة وتعيش فى سعادةٍ وهناء». فاضطر الصياد السعيد أن يسأله: «كيف ترانى الآن؟ وماذا كنتُ أفعل عندما وجدتني؟» مَنْ منّا لا يطمح فى السعادة طوال حياته؟ مما لا شك فيه أن جميعنا يتطلّع إليها متمنيًا ألا يفقدها أبدًا، لكن للأسف الكثير من الناس يظنون أنهم يحصلون عليها عن طريق الغنى والمجد والملذات والأشياء الدنيوية فقط، ولكن خبرة الحياة تعلّمنا أن مصدر السعادة هو الضمير الصافى والقلب المُحب والقناعة بما نملك، كما أنها تغمرنا عندما نقوم بواجباتنا المطلوبة منّا على أكمل وجه، فكل هذه الأشياء تضمن لنا راحة البال وسلامة القلب ووفرة الطمأنينة، لأنها ثمرة علاقتنا الوطيدة بالله ومحبتنا له وللآخرين. هنا نتعلم بألا نلهث وراء سعادة مزيفة تأتينا من بريق الذهب والمال الخادع، الذى يورثنا الغمّ والهم لأننا صرنا عبيدًا لهما، ويكون همّنا الأول والأخير البحث عنهما للحصول على أكبر قدر ونقوم بتخزينه. لا ننسى أن بريق الغنى يحجب عنّا رؤية جمال الخليقة والتطلع إلى وجوه البشر، وتنحصر حياتنا فى سجن الأنا المدمّر، كما أنه يدفعنا إلى الوقوع فى رذيلة البخل وعدم الاهتمام بالآخرين أو النظر إلى احتياجاتهم. لا نستطيع أن نتخيّل ما تجلبه هذه الرذيلة على صاحبها من تعاسة وأنانية، كما أنها تحزن قلب الله نتيجة ما يقوم به من حرمان الآخرين الذين هم بحاجة إلى قوتهم اليومى، أو مَنْ يوفّر لهم طلباتهم من علاجٍ ورعاية وغيرها. كثيرًا ما نصطدم فى حياتنا بأشخاصٍ ينفقون أموالًا طائلة للحصول على السعادة، بالرغم من أنها متوفرة بين أيديهم وفى داخلهم، ولا تكلّفهم شيئًا، لكن تنقصهم نعمة القناعة والرضا بما يمتلكون، أو تقديم مما فى حوزتهم للآخرين، وهنا ستنقلب حياتهم رأسًا على عقبٍ للأفضل والأجمل، كما أن السعادة ستغمرهم كل يوم نتيجة اهتمامهم بالغير وسد حاجته. مَنْ يبحث عن السعادة بعيدًا عن الله ووصاياه ومحبته للناس؛ سيكون كمن يحاول الإمساك بظله، لن يجدها مهما كلّفه الأمر. وما أجمل الأشخاص الأثرياء الذين يمتلكون الكثير، ولكنهم يساعدون الآخرين ويقومون بأعمالٍ خيرية! لأن محبة المحتاجين والعطف عليهم، تفجّر السعادة والبركة طوال حياتنا على الأرض. مما لا شك فيه أن الأغنياء الذين يعتبرون ثروتهم وغناهم بركة من الله، وليست نتيجة ذكائهم وبراعتهم، سيفضّلون مساعدة الفقراء على رفاهيتهم، كما أنهم يضحّون بأشياءٍ كثيرة فى سبيل سعادة المحتاجين وسدّ حاجتهم اليومية. فالقناعة الحقيقية تفتح القلوب والبصيرة، وتساعد الإنسان القنوع على رؤية ما لا يراه الطمّاع والأنانى، ويرى الله فى شخص المحتاج والفقير والمريض. لنبدأ هذه التجربة الرائعة بالتفكير فى الآخرين ومساعدتهم، وسنجد حياتنا أصبحت جميلة ورائعة، ونشعر بطعمٍ آخر لكل ما نقوم به. لنبدأ بتضحياتٍ حتى وإن كانت بسيطة فى سبيل الآخرين ومحبتهم ونحمل السعادة إلى قلب المحرومين والمعذّبين. ونختم بكلمات المهاتما غاندي: «تتوقف السعادة على ما تستطيع عطاءه، لا الحصول عليه».