رامي المتولي يكتب: أفلام مهرجان الجونة 2021.. دعوة للإنسانية والحب وكسر النمطية
الدورة الخامسة للجونة.. توسع كبير فى عدد الأفلام والمحاضرات والندوات
الدورة الخامسة لمهرجان الجونة السينمائى وضعت قبل حتى أن تبدأ فى موضع اختبار وأكثر من مرة، فى الوقت الذى كانت فيه إدارة المهرجان تتجهز للتفوق فى أجواء احتفالية، والدليل هو اختيارات الأفلام الجيدة وحسن التنظيم على الرغم من التوسع الكبير فى عدد الأفلام المعروضة وكذلك المحاضرات والندوات وتفاعل الحضور مع هذه الفعاليات بشكل يسمح باستيعاب نشاطهم، لكن كان للقدر مسار مختلف فى اختبار المهرجان، فقبل أن تبدأ فعاليات المهرجان بيوم ومع وصول حضور المهرجان أماكن الإقامة واستعدادهم لحضور المؤتمر الصحفى للإعلان عن تفاصيل الدورة الجديدة، فوجئ الجميع بنشوب حريق فى مبنى البلازا المقر الرئيسى لفعاليات المهرجان، الأمر الذى عنى وقتها إلغاء حفل افتتاح المهرجان على أقل تقدير فى حال عدم السيطرة على الحريق ووقوع خسائر كبرى، لكن النجاح الحقيقى كان من قوات الدفاع المدنى التى استجابت بسرعة لبلاغ الحريق وتعامل إدارة المهرجان مع آثار الحريق وكأن شيئًا لم يكن، لينجح المهرجان فى الاختبار الاول الصعب، ويتأكد النجاح بعد حفل الافتتاح وانتظام العروض وسير العمليات اللوجستية داخل المهرجان من مواعيد العروض لاستلام البطاقات لحركة التنقلات وكلها تصب فى مصلحة عروض الأفلام والندوات والمحاضرات الخاصة بمنصة الجونة.
1- أول أفالم المهرجان.. دعوة لإلنسانية والحب
أول عروض المهرجان كان الفيلم الفنلندى «الرجل الأعمى الذى لم يرغب فى مشاهدة فيلم تيتانك»، والذى يبدو واضحًا من عنوانه الطويل أنه فيلم ساخر، يتناول قصة حب بين رجل كفيف ومشلول بسبب مرض تصلب الأعصاب، ومريضة بالسرطان وعلى الرغم من أن هذه الشخصيات توحى بأننا أمام ميلودرامى سودوى، إلا أنه فيلم مفعم بالأمل ومحب للحب والحياة، يستخدم السينما وأفلامها كوسيلة تقوى البطل على الاستمرار فى مشواره على الرغم من صعوبته.
ليس هناك أفضل من هذا الفيلم ليفتتح عروض مهرجان الجونة الذى يحمل شعارا ثابتا وهو «سينما من أجل الإنسانية»، بطل الفيلم يخوض رحلة طويلة مليئة بالمخاطر توقعه فى أيدى لصوص يستغلون حالته الصحية لمجرد رغبته فى رؤية المرأة التى يحبها والتى تسكن فى مدينة أخرى، ومن خلال هذه الرحلة نتعرف على هذا البطل من خلال رؤية بصرية شديدة التفوق على الرغم من بساطتها فمخرج الفيلم تيمو نيكى نقل للمشاهد معاناة بطل الفيلم ياكو (بيترى بويكولاينن) مع العمى والشلل عن طريق ارتفاع زاوية التصوير لتكون فى محاذاته جلوسًا على الكرسى المتحرك، ونقل لنا شعوره بالرؤية عن طريق الضبابية التى احتلت مشاهد الفيلم بالإضافة إلى اللقطات المقربة التى تركز فى معظمها على ياكو، وتبدو باقى شخصيات الفيلم ليس هناك ما يميزها للمشاهد سوى الصوت، الذى يعتبر هو وسيلة ياكو الوحيدة فى معرفة إبعاد العالم حوله مع حاسة اللمس.
هذا البناء البصرى مع السيناريو هما أكثر ما يميز الفيلم يليهم الأداء التمثيلى وهذه العناصر هى الأكثر صعوبة فى التعامل معها، فاختيار البناء البصرى للفيلم حمل المخرج الكثير من الجهد لاختيار أحجام اللقطات والالوان وألقى عبئا على الممثلين الذين لا يراهم الجمهور سوى بشكل مشوش بالاعتماد على أداة الصوت لنقل المشاعر، بينما يتحمل بيترى عبئا أكبر فى التعبير بالصوت والوجه فقط.
سيناريو الفيلم يعتمد بشكل رئيسى على الأفلام السينمائية وعشق البطل لها، وكذلك الحال مع حبيبته والذى على الرغم من إعاقته إلا أنه يحتفظ بمكتبة أفلامه التى كان يملكها قبل أن تتمكن منه أعراض المرض، أما الحبيبة سيربا (ماريانا مايالا) فتحب السينما لكنها ترى الأفلام بشكل مختلف ووجهة نظر تتعارض أحيانًا مع حبيبها، ياكو دائم السخرية مستغلا معرفته بالأفلام مما ينسج حول شخصيته الكثير انطلاقًا فقط من رؤيته للأفلام والنكات الساخرة التى يلقيها مستعينا بمعرفته.
2- فيلم "على صوتك" تغريبة على الطراز العربى
الفيلم المغربى/الفرنسى «على صوتك» كان أول الأفلام فى المهرجان الذى تسبقه سجادة حمراء، وكأنه افتتاح مصغر واحتفاء بالسينما واسم المخرج الكبير نبيل عيوش، لكن الفيلم نفسه على الرغم من كونه الفيلم الأبرز فى فعاليات اليوم الأول نظرًا لاسم مخرجه المهم مع قصته الرئيسية التى تدور حول مغنى راب سابق يعمل فى مركز ثقافى موسيقى، يتفاعل مع مراهقين من محبى هذا اللون الموسيقى والموهوبين فيه، ويؤثر فى شخصياتهم كما أثروا هم فى شخصياته، إلا أن الاستفادة الكبرى من الفيلم كانت للمهرجان الذى جلب الفيلم واختار عرضه خلال فعالياته ليوفر مشاهدته لجمهور من كل العالم، لكن الفيلم نفسه ليس على نفس المستوى فنيًا.
بشكل عام يتناول الفيلم عالم موسيقى الراب والرابرز فى حى شعبى فى مدينة الدار البيضاء المغربية، ومعاناتهم مع أكثر من عامل ما بين الفقر، والموضوعات التى يختاروها لأغانيهم بالإضافة لفهمهم لما حولهم من ظروف واتجاهات سياسية واجتماعية، عند هذه النقطة تبدو الفكرة شديدة الجاذبية وموضوعها جديد على الشاشة الكبيرة العربية، خاصة فى جزئية الربط بين دور الفن فى مقاومة التطرف والإرهاب من جانب ووجود الدافع لمقاومة الظروف المعيشية الصعبة من جانب آخر.
اختيار المخرج لهذا اللون الموسيقى تحديدًا والذى انتشر فى كل بلدان العالم العربى تقريبًا خلال الأعوام منذ بداية الألفية الحالية وحتى الآن، وتحول لوسيلة واسعة الانتشار للتعبير، وتناولها فنانون وجمهور كل دولة وفق مفرداتها وطبيعتها الاجتماعية فارضة البيئة الخاصة بالدولة وثقافتها على نوع الموسيقى وهو ما أدى إلى وجود أكثر من شكل ولون للراب، فما يقدمه على سبيل المثال أحمد مكى يختلف عما يقدمه ويجز، لكن الراب فى فيلم «على صوتك» تم تصويره على الطريقة الأمريكية فى أفلامها، لم يحمل خصوصية المكان ولا طابعه الأمر الذى يخلق بالضرورة حائط صد بينه وبين المشاهد الذى شاهد عشرات الأفلام الأمريكية التى تسير على نفس الخط، وهى دخول المعلم المختلف المتمرد على مجموعة من التلاميذ ليحول حياتهم كلية، أين إذن الخصوصية التى تميز فيلم «على صوتك»؟.
بالإضافة لاحتلال الأغانى التى يؤلفها هؤلاء الشباب شريط الفيلم على حساب رسم الشخصيات ومعرفة أهدافها وعلاقاتها، ويبدو الأمر وكأن هناك من ترك الكاميرا تدور لتلتقط كل شىء ثم تقوم بعرضه، وهو ما انعكس على إيقاع الفيلم ببطء شديد وزاد من مساحة الحاجز بين المشاهد والفيلم بعد تعطيل التعرف على هذه الشخصيات وتفاصيل حياتهم ومعيشتهم فى مقابل سيل الأغانى التى يقدمونها بلا أى اختزال وكأن الغرض هو إنتاج ألبوم غنائى لا فيلم سينمائى، هذا التفاعل مع الشخصيات لم يأت إلا قرب نهاية الفيلم مع تصاعد الأحداث والتى تدفع المشاهد لاختيار جانب من الجانبين المتصارعين.
3- "ريش" محاولة طموحة لكسر النمطية
من أكثر الأفلام التى كان ينتظر حضور مهرجان الجونة عرضها هو الفيلم المصرى «ريش» للمخرج عمر الزهيرى، وهو فيلمه الطويل الأول والمتوج بجائزتى أسبوع النقاد والفيبريسى من مهرجان كان السينمائى الدولى، وعلى الرغم من الجدل الذى أثاره الفيلم بشكل موسع وبشكل يتخطى مستواه الفنى وصولا لتأويله سياسيًا، وعلى الرغم من تبعات هذا الجدل التى قد يراها البعض سلبية لكنها فى الحقيقة فى منتهى الإيجابية وتتحول لما يتمناه أى فنان فى العالم هو دفع المشاهدين للتفاعل مع عمله الفنى وإثارة الجدل حول أفكاره، والتفاعل بقبول ورفض وسخرية وكافة الانشطة السلمية التى تثار حول عمل فنى يدفع لتوسيع وإدراك مختلف لما هو حول أى شخص فى العالم، فمن حق أى شخص تأويل أى عمل فنى وفق معتقداته وآرائه، هذا هو الدافع الحقيقى وراء أى مبدع، لا يهتم بتقديم فن «نظيف» يدعو للأخلاق والقيم الحميدة قدر ما يرغب فى دفع المتلقين للتفاعل مع هذه القيم المجتمعية بالتفكير ومحاولة نقدها، ولكى يصل لهذا المستوى يجب أن يضعها فى قالب من إبداعه مستخدمًا الأدوات التى يتيحها له الشكل الفنى ويتعامل معها بذكاء يدفع المتلقين للتفكير.
فيلم «ريش» بلا أدنى شك هو واحد من هذه الأفلام التى تدفع للجدل حولها وإثارة القضايا، ففيما يختار المخرج مكانا خياليا بتفاصيل فانتازية وشكل فقر لا يمكن أن يتواجد فى أى مجتمع بالعالم، يبدو حتى أثريائه فى منتهى الفقر ورداءة الذوق والملبس، كإشارة على استحالة وجود هذا المجتمع بهذا الشكل فى أى مكان فى العالم، إلا أن هذا الاختيار غير المحدد المعالم آثار العديد من ردود الأفعال كلٍ وفق أفكاره ومعتقداته، عند هذا الحد نستطيع القول إن الزهيرى نجح فى تحفيز الجمهور للتفاعل والتفكير وكسر حاجز النمطية الذى تفرضه السينما التجارية حتى مع نجاحها، وهو ما يعيد للأذهان تجربة «يوم الدين» للمخرج أبو بكر شوقى التى مثلها مثل «ريش»، لا تحمل جودة فنية فى كل العناصر وهناك ضعف واضح فى بعضها بشكل يتخطى منح فرصة الشك للعمل الأول ودعمه، لكنها فى الحقيقة نجحت فى إثارة الجدل والتحول لعمل فنى خالد يتم استدعاؤه كمثال فى كثير من المواضع، نستطيع التحدث كثيرًا عن ضعف عنصر السيناريو عند مؤلفيه أحمد عامر وعمر الزهيرى، والزمن الطويل الذى تم استهلاكه فى وصف حدود العالم الغريب فى الفيلم وشخصياته والغرق فى أدق التفاصيل وتكرارها دون استخدام الاختزال البصرى الذى يميز الأعمال الفنية السينمائية وكذلك الحال فى استخدام الحوار الفقير، والاعتماد على الأداء التمثيلى كعنصر رئيسى فى الفيلم مع ممثلين غير محترفين دون تقديم تدريب كاف أو توجيه، ليصبح التفوق فى هذا العنصر تحديدًا للفروق الفردية بين هؤلاء الهواه المحبين للفن الذين احتاجوا أكثر توجيها من المخرج وعمل فردى مباشر بينه وبينهما ليتخطى معظهم مركلة مجرد إلقاء الجمل الحوارية والوقف متخشبين أمام الكاميرا وتتوجه أنظارهم إليها اثناء الأداء.
يضاف لهذه المشاكل، مشكلة أخرى لا تقل أهمية وهى اختيار شكل غربى للفيلم، لينفصل بذلك عن الواقع والأصالة المصرية، وهى الصفة التى ترادف أفلام الواقعية السحرية عادة من خلالها يصنع المخرج عالما خاصا متفردا ليس له وجود لكن نلاحظ دائمًا من خلاله ارتباطه بالبيئة التى يأتى منها الفيلم، وهو الشىء الذى لم يتوفر فى «ريش» على الرغم من جودة تصميم الإنتاج كوحدة وكذلك التكوينات فى كل كادر، وتفوق عناصر المونتاج والتصوير والتلوين والملابس، لكن كلها منفصلة عن الواقع المصرى وهو أمر شديد الاهمية حيث إنه المسئول الأول عن تعاطف المشاهد مع الشخصية لا أن يراها بعيدة عنه وكأن كل مشاكلها هى لشخص غريب يفتقد تعاطفه، نلاحظ بوضوح إشارات مرجعية فى الفيلم وتأثر واضح بفيلم ١٩٨٤ فيما يتعلق بخلق العالم ككل مع تفرد فى رؤية عمر الزهيرى بالطبع لكن هذا التفرد يظل منفصلا عن البيئة الشعبية المصرية.