محمد مسعود يكتب: غير المكتوب عليهم «١٥» | جمال الغيطانى.. «أديب» على الجبهة
نجا من الموت المحقق مرتين.. والفريق محمد فوزى اعتمده مراسلًا حربيًا
عمل فى الصحافة من أجل زيادة الدخل وطلب من موسى صبرى إرساله إلى الجبهة
عبدالناصر أثنى على تحقيقه الصحفى «المقاتل المصرى كما رأيته»
أولى زياراته الرسمية للقناة عام ١٩٦٨.. وتطوع فى المقاومة الشعبية قبلها بسنوات
فى أغسطس ٢٠١٥ وأثناء اجتماع مجلس تحرير الجريدة، كلفنى الأستاذ الكاتب الكبير عادل حمودة رئيس مجلس التحرير، بإرسال أحد الزملاء الصحفيين لإجراء حوار مع الكاتب والأديب الكبير والمراسل الحربى جمال الغيطانى، مشترطا أن من يذهب إليه يكون لديه ملكة إجراء الحوار وصياغته بأسلوب أدبى، قبل أن يستدرك بعدها بلحظات «ما تعمل أنت الحوار».
وما إن تحدثت إلى أديبنا الكبير الراحل، وجدت لديه العديد من المفاجآت والذكريات، كان صوته يشع بالحياة وهو يتحدث عن فترة عمله كمراسل حربى، وكيف قابل الرئيس جمال عبد الناصر على الجبهة، أثناء حرب الاستنزاف، وكيف نجى من الموت هو ومن معه من المراسلين، وصف لى الأستاذ جمال الغيطانى قناة السويس، وصف المحب لحبيبته، كان هذا الشاطئ بالنسبة إليه هو الجنة المغتصبة التى لن تعود سوى بعزيمة وسواعد الأبطال، والحقيقة فجر لى الراحل وقتها مفاجأة من العيار الثقيل، وهى أن ما تم تصويره من الحرب هى مشاهد محاكاة، لأن وقت عبور قناة السويس لم يكن على جبهة القتال أى صحفى أو مراسل.
وبمناسبة نصر أكتوبر العظيم، أنشر ما لم ينشر – مع الاستعانة ببعض التفاصيل القليلة مما نشر- من حوارى مع الأديب العظيم الراحل، تكريما لمجهوداته، واحتفاء ببطولات رجال صنعوا النصر، بالعزيمة، ونفضوا عن بلدهم وحل الهزيمة.
صباح يوم الحرب
فوجئ جمال الغيطانى مثل غيره، بقرار الحرب وكان وقتها فى مبنى نقابة الصحفيين (فى صباح يوم النصر السادس من أكتوبر ١٩٧٣ كنت مع زملائى فى مقر نقابة الصحفيين، نتناقش ونتحاور حول قرار الرئيس السادات الذى أعادنا إلى العمل فى غير أماكننا بعد أن تم فصلنا لتأييدنا مظاهرات الطلبة عام ١٩٧١، أذكر المشهد وكأنه حدث بالأمس، دخل علينا زميلنا «حسن الشرقاوى» الصحفى بالأهرام وسيد الجبرتى الصحفى بالأخبار، وأخبرونا قائلين: «الجيش المصرى عبر القناة»، جرينا من مكاننا كل فى اتجاه، وكان معى رقم هاتف مباشر بالمجموعة ٢٦ مخابرات حربية، واتصلت بالفعل، بالعميد بدر حميد، وقال لى لا يوجد صحفى أو مراسل واحد على الجبهة، وذهبت إلى مبنى الشئون المعنوية بطريق العروبة، ومنه سافرت مباشرة إلى القطاع الشمالى، ووصلت إلى الجبهة فى السابعة صباحا لأرى بأم عينى العلم المصرى مرفوعا، وأثناء الحروب يبقى لرفع العلم قدسية عظيمة، وعبرت إلى الضفة الأخرى، ووجدت الأسماك تطفو بشدة على سطح المياه، وأول ما قابلت الجنود سألونى: «الناس بتقول علينا إيه».. والحقيقة كان الجيش يغسل عار الهزيمة وذلها).
»أديب« على الجبهة
كان جنودنا البواسل، يشعرون بالفخر، بعد الثأر ورد الاعتبار وعبور خط بارليف العنيد، كانت الفرحة فى عيونهم لا تحتاج لأديب ينقل عنهم فرحتهم، بقدر ما كانت تحتاج لمصور فوتوغرافى، ليوقف الزمن فى هذه الصورة وعند هذه اللحظة العظيمة، لكن ما علاقة الأديب بالصحافة، وما علاقته بالحرب، وكيف تحول الغيطانى إلى مراسل حربى ( عملى فى الصحافة كان من أجل زيادة الدخل، والحقيقة كنت أخشى على الأدب من الصحافة، خفت أن يؤثر عملى الصحفى على عملى الأدبى، والتحقت بالفعل بالعمل بدار أخبار اليوم وبالتحديد فى قسم التحقيقات، وكانت زيارتى الرسمية الأولى للجبهة فى عام ١٩٦٨، علمت وقتها أن هناك وفدًا سيسافر، فدخلت إلى مكتب موسى صبرى وطلبت منه أن أرافقهم، لم يستغرب موسى صبرى من طلبى لكنه قال «ليه لأ.. أنت أديب روح معاهم» وتم تشكيل الوفد المسافر للجبهة ومثّل أخبار اليوم فيه الكاتب «أحمد زين» وكان رئيسا لقسم الأخبار، والكاتب «صلاح قبضايا» وكان المحرر العسكرى للأخبار – وقتذاك – والمصور الصحفى «مكرم جاد الكريم»، ورسام الكاريكاتير مصطفى حسين).
ثمة علاقة قوية كانت تربط جمال الغيطانى، بقناة السويس، كان دائم الزيارة، وبحودث نكسة يونيه، أغلقت القناة تماما بفعل الحرب، لكن ذلك لم يقطع علاقته بها، فتطوع فى المقاومة الشعبية، وسافر معهم إلى السويس، كانت مهمتهم ملاقاة الجنود العائدين المنهكين وتقديم المياه وشرائح البطيخ المثلج إليهم لإمدادهم ببعض الطاقة، لكنهم فوجئوا بصدور أوامر تطالبهم بالعودة، فعادوا.
معركة الكيلو 10
سافر وفد «أخبار اليوم»، إلى بورسعيد عن طريق دمياط، ومن دمياط سلكوا طريقا محاذيا للبحر الأبيض المتوسط يمر بمنطقة «الجمُيل» ببورسعيد، وفى المدينة قابل الوفد مصطفى شردى (وقتها كان مصطفى شردى مراسلا صحفيا للأخبار فى بورسعيد، وكان له دور مهم أثناء العدوان الثلاثى على مصر، إذ قام بتصوير الدمار الذى أحدثته الحرب، وأرسله إلى مصطفى أمين ونشرت الصور وأرسلت نسخة منها إلى مندوب مصر فى الأمم المتحدة، وفى مكتب المخابرات الحربية، أخبرونا بأننا أول صحفيين نقوم بزيارة الكيلو ١٠، وكانت إسرائيل قد اكتشفت أنها بعد أن تقدمت إلى الضفة الغربية أن هناك منطقة لم تحتلها بعد، تنتهى عند منطقة رأس العش، وتكمن أهمية المنطقة أن إسرائيل قررت التقدم واحتلالها، لكن كانت هناك سرية من قوات الصاعقة يقودها إبراهيم الرفاعى مؤسس المجموعة ٣٩ تصدوا للطابور الإسرائيلى ودمروا الدبابات الإسرائيلية، وكانت أهمية رمزية المعركة أن فرد المشاة الصاعقة المصرى بإمكانه تدمير دبابة إسرائيلية بالأربيجيه، وبالفعل ظل العلم المصرى مرفوعا على الكيلو ١٠ إلى عام ١٩٧٣).
الموت المحقق
كان جمال الغيطانى يتذكر ويصف لى برؤيته الأدبية ما حدث بالتفصيل (بعد عودتنا من موقعة رأس العش، سرنا فى ضواحى بورسعيد، وكان الشمس قد أخذت فى الغروب، نزلنا فى مواقع تحتلها قوات الصاعقة المصرية، وكانت لديها تعليمات «لا تبدأ بالضرب.. رد فقط»، وقتها قابلت النقيب «عبد العزيز تعلب» وكان قائد سرية صاعقة، وترجع جذوره إلى محافظة سوهاج، وأصر تعلب أن نجلس معه ونشرب الشاى على خط القناة، وفوجئت بأنه لم ينزل إجازة منذ ستة أشهر، لا لشيء إلا لأنه رفض النزول وكان يرد دوما على من يطالبه بالنزول فى إجازة «طول ما هما هنا – يقصد الإسرائيليين – أنا مش نازل).
وبعد سير الغيطانى والمجموعة لفترة، نظر الغيطانى بجواره فشاهد علامة حمراء مثلثة (علمت وقتها أننا وقعنا فريسة فى حقل الألغام الذى تم تحذيرنا منه من قبل، توقفنا جميعا، نتبادل النظرات، قد تكون نهاية أحدنا، أو على الأقل قد يخرج أى منا بطرف مبتور بفعل انفجار اللغم فى حال النجاة من الموت، ولم يكن أمامنا إلا انتظار المعجزة، التى تحققت بالفعل، فقد التف كل منا وسار فى الاتجاه العكسى، على نفس الخطوات التى كان يتقدم بها فى حقل الألغام، وبعد حبس الأنفاس والخطوات الحذرة، جاء الخلاص والخروج من الحقل).
كتب الغيطانى بعد عودته إلى بورسعيد، تحقيقا صحفيا ركز خلاله على النقيب عبد العزيز تعلب وفريقه، وأرسله إلى موسى صبرى الذى قرأه بإعجاب، وأشار إليه بالصفحة الأولى بأخبار اليوم، ونشره على صفحة كاملة بعنوان «المقاتل المصرى كما رأيته على خط النار».
لم يكن الغيطانى يتوقع وقتها أن الرئيس جمال عبد الناصر سيقرأ الموضوع بنفسه، وسينال إعجابه قائلا: «هذه هى الكتابة التى نحتاجها»، وقتها اعتمده الفريق محمد فوزى مراسلا حربا للأخبار.
النجاة مرة أخرى
أثناء حرب الاستنزاف ذاع صيت القناص المصرى أحمد نوار، وهو نفسه الفنان التشكيلى المصرى، وكان نوار قد قنص نحو ٣٠ إسرائيليا، فقرر الغيطانى أن يزوره، وعند خروجه ومعه المصور، طلعا على سلم بدائى، وفجأة وجد أمامه الرئيس جمال عبد الناصر ( كان مرتديا قميصا أبيض، وبنطلونا غير مفرود، وكنت أنا أرتدى سترة ضابط مظلات وبنطلونا أسود، سألنى ناصر: «بتعملوا إيه؟» فعرفته بنفسى وبزميلى فتركنا قائلاً «ربنا معاكم»، ودخل أحد الخنادق، وقتها قررت ألا أذهب إلى أحمد نوار، وبقيت لأعرف ماذا قال الرئيس لجنوده، وبعد مغادرته سألت الجنود ماذا قال لكم الرئيس، وهنا فوجئت وصدمت بأسئلة الرئيس الدقيقة التى كان يريد من خلالها معرفة أحوال الجنود بصورة كاملة وكانت الأسئلة من عينة «بيأكلوكم إيه؟ وبتناموا كام ساعة؟ وبتستحموا كام مرة؟).
المرة الأولى التى نجا فيها الغيطانى من الموت المحقق كانت فى حقل الألغام، أما المرة الثانية، فكانت عندما قرر زيارة القناص المصرى أحمد نوار فى موقعه (كنت فى السيارة، مع محمد عودة الذى طلب السفر وزميلى المصور مكرم، وضابط من المخابرات الحربية كان هو الفنان «محمود قابيل»، وكان لابد أن يسلمنا لمنطقة عسكرية أخرى، وكانت السيارة ببابين فقط، ما يعنى أنها ليس بها شخص مهم، إنما إن كانت السيارة ذات أربعة أبواب فهذا معناه أنها تقل شخصا مهما، وفجأة وجدنا عسكرياً يقفز من حفرة برميلية ويطالب بتوقف السيارة والانبطاح خارجها فعلنا ذلك بالفعل، ووجدنا طائرات سكا يهوك تحلق فوقنا ولم نكن نسمعها ونحن فى السيارة، والحقيقة كنا هدفا مكشوفا جدا لدرجة أننا أيقنا أن الموت يحلق فوقنا، وكانت المفاجأة أننا لم نكن الهدف الذى سعت الطائرات خلفه بينما كان ستة من الخبراء الروس يصطادون السمك من القناة وضربت الطائرات القنابل عليهم فأبادتهم أمام أعيننا).
رحم الله جمال الغيطانى، وأدام النصر لجيش مصر العظيم.