د. رشا سمير تكتب: خالد الحسينى.. الطبيب الذى سطر تاريخ أفغانستان بقلمه الحالم

مقالات الرأي




رواياته تتطرق إلى قلب الواقع الأفغانى وتخطت مبيعاتها ٤٠ مليون نسخة

محارب شجاع وجراح ماهر فتح جراح وطن أصابه التطرف


ليسوا الجنود فقط هم من يحملون السلاح، ولكن أصحاب الأقلام الصادقة أيضا هم من يتقدمون صفوف المحاربين بشجاعة، فالحكائين هم أكثر المدافعين عن قضايا أوطانهم، يطلقون الكلمات رصاصا فى وجه الظلم والاستبداد..

فمن بين أطلال الماضى وذكرياته البعيدة تُكتب أقدار الشعوب..

شعوب تصارع من أجل البقاء، وشعوب كان مصيرها الفناء، وشعوب لازالت تتنفس الحرية فى حين سرق حكامها الهواء.

هذه غالبا هى الحكاية..والحكاية دوما هى حكاية شعب.

حكاية أفغانستان:

الحكاية فى أفغانستان ببساطة هى حكاية طالبان، وهى الحركة القومية الإسلامية السياسية المسلحة التى أسسها الملا محمد عمر، التى عادت اليوم من جديد لتظهر على الساحة بقوة وتحكم أفغانستان بقبضة من حديد، تلك الجماعة المتطرفة التى حظرت الأنشطة ووسائل الإعلام وقتلت الثقافة ومنعت الفتيات من التعليم، الجماعة التى تتصدى للفكر بالجلد، وللثقافة بالقتل وللتطور بالإرهاب.

من هنا كان الكاتب والطبيب الأفغانى الأمريكى خالد حسينى المولود فى عام ١٩٦٥ فى كابل بأفغانستان، هو خير شاهد على تلك الجماعة وخير من يروى ويقص ما وراء الأحداث من حقيقة، ولأنه راع للثقافة يروى قصة جهلاء يقتلعون الأدب والشعر والفن من جذوره ويحرقونه باسم التطرف الدينى، والرواية دون شك تقطر حسرة وألما وواقعية.

كان والده يعمل فى المجال الدبلوماسى فى وزارة الخارجية الأفغانية فى كابول، أما والدته فكانت معلمة مختصة بتدريس اللغة الفارسية فى إحدى مدارس البنات الثانوية.

ترعرع حسينى فى كنف عائلة موسرة الحال، إذ قضى سنوات من طفولته فى حى وزير أكبر خان، أحد أثرى المناطق فى العاصمة كابول.

نال خالد مع أسرته حق اللجوء إلى الولايات المتحدة الأمريكية، فأقام فيها وتخرج فى كلية الطب فى جامعة كاليفورنيا.

عيّن سفيرًا للنوايا الحسنة لعام ٢٠١٣، ومن شدة حرصه على أن يحمل هموم اللاجئين ويتصدى لقضاياهم فقد أعلن عن إطلاق مؤسسة تحمل اسمه تُعنى شئون اللاجئين وتقديم المساعدات لهم.

مارس خالد حسينى مهنة الطب لأكثر من ١٠ سنوات، إلا أنه توقف عن مزاولة مهنة الطب فى منتصف عام ٢٠١٤.

المبهر أن خالد الحسينى كتب فقط ثلاث روايات عن أفغانستان، ثم توقف عن الكتابة منذ حوالى ثمانى سنوات، تفرغ فيها للحياة مع اللاجئين والدفاع عنهم والانخراط فى تقديم المساعدات لهم، ورغم ذلك لازال اسمه ساطعا فى عالم الأدب كواحد من أهم كُتاب العالم، بعد أن تخطت مبيعات رواياته الأربعون مليون نسخة.

أثبت خالد حسينى للعالم أن الأديب ليس فقط من يسطر الحروف على الورق، ولكن الأديب هو من يُقدم للبشرية من خلال رسالة يتبناها، وأن النجاح الأدبى ليس بعدد الكتب ولكن النجاح الحقيقى فى قيمة ما يكتبه الروائى.

عداء الطائرة الورقية:

أصدر حسينى ثلاث روايات كان أولها فى عام ٢٠٠٣ وهى «عدّاء الطائرة الورقية The Kite Runner»، الرواية التى حظيت بشهرة واسعة عالميًا وحققت مبيعات كبيرة، بل تحولت إلى فيلم سينمائى نال العديد من الجوائز.

تدور أحداث الرواية فى أفغانستان فى الفترة التى أعقبت سقوط النظام الملكى فى البلاد وحتى انهيار حكم طالبان فيها، كذلك تقع بعض الأحداث فى منطقة خليج سان فرانسيسكو، وتحديدًا فى مدينة فريمونت بولاية كاليفورنيا.

تتطرق الرواية إلى قلب المجتمع الأفغانى وتنخرط فى مشكلاته، فتستعرض التوترات العرقية بين البشتون والهزارة، وتجارب المهاجرين الأفغان فى الولايات المتحدة الأمريكية.

يروى الكاتب قصة «أمير» الابن الوحيد لواحد من أثرياء كابُل، والذى عُرف بمناهضته للشيوعية، أمير الذى تربى وحيدا لكن ربطته صداقة متينة بـ»حسان» ذلك الفتى المسكين الذى يعمل أبوه كخادم فى منزل الأسرة.

تستعرض الرواية التقارب الواضح بين الصبيين، وكيف أن حسان قد بذل كل ما يملك للدفاع عن أمير ضد الشباب الذين اعتادوا التحرش به.

من أخطر وأعظم مشاهد الرواية هذا المشهد الذى يتجسد فى اللحظة التى ينفرد فيها المتحرشون بحسان، ويطلبون منه أن يسلمهم الطائرة الورقية التى فاز بها أمير فى المسابقة، ولكنه يرفض بكل الوفاء لصديقه، فيتعرض للاغتصاب أمام عينى أمير، الذى يقف مراقباً ذلك المشهد الأليم فى خوف ودون أن تطاوعه نفسه ليدافع عن صديقه الصدوق.

عقدة الذنب التى انعقدت هذا اليوم فى عقل أمير، تظل مسيطرة على انفعالاته وتفكيره طوال حياته، بل تلاحقه بعد أن يهرب مع أبيه إلى الولايات المتحدة الأمريكية بعد أن تمكن الاتحاد السوفيتى من اجتياح أفغانستان فى نهايات ١٩٧٩م.

على هامش هذه القصة الإنسانية يستعرض حسينى الكثير من ملامح الفوضى السائدة على الساحة الأفغانية، ويسلط الضوء بقوة وبكل شجاعة على الاختلاف القاتل فى المذهب والشريعة، وكيف أن هناك تبايناً حاداً بين المهمشين الفقراء الذين ينتمون لطائفة «الهزارة»، ممن يعتنقون المذهب الشيعى الاثنى عشرى من جهة، والطبقة الأرستقراطية الغنية التى تنتمى للعرق «البشتوني»، والذين يعتنقون المذهب السنى من جهة أخرى، وفى ظل هذا التباين كان من الطبيعى أن تصبح أفغانستان مرتعا خصبا للاستقطاب السياسى والتغييب الدينى، والذى انتهى بكل بساطة بحكم طالبان، والتخلص فورا من كل من يخالفهم فى عقائدهم الدينية والسياسية.

يقول حسينى على لسان بطل الرواية:

((السرقة هى الخطيئة الوحيدة التى لا يمكن غفرانها، الخطيئة الأكبر بين كل الخطايا، عندما تقتل رجلاً، فأنت تسرق حياة، تسرق حق الزوجة بزوج، تسرق أباً من أولاده..عندما تكذب، تسرق حق شخص فى الحقيقة..عندما تغش، تسرق حق العدالة..ليس هناك شرّ كالسرقة)).

ألف شمس مشرقة:

فى عام ٢٠٠٧، نشر خالد حسينى روايته الثانية بعنوان «ألف شمس ساطعة A Thousand Splendid Suns». تدور أحداث الرواية فى أفغانستان أيضًا، ولكن هذه المرة تبدو المعالجة مختلفة، فالرواية تعالج عدة قضايا لم يتطرق إليها حسينى فى روايته الأولى، لأنها تطرح القضايا من منظور نسائى.

هى قصة امرأتين هما مريم وليلى، مريم هى ثمرة علاقة غير شرعية بين خليل الثرى وواحدة من خادماته. لم تعش مريم يوماً حياة طبيعية، فوالدها أبعدها عن حياته ومنزله، أما أمها التى أصيبت بعقدة الاضطهاد، فقد حاولت جاهدة أن تبعدها عن هذا العالم الظالم وهو عالم الرجال، رغم ذلك فإن مريم حاولت أن تجد أباها، فى تلك الرحلة الشاقة تعود لتجد الأم قد شنقت نفسها. هكذا تتلقى مريم أول طعنة حقيقية من الحياة، ثم تتوالى الطعنات، بتدبير من زوجات الأب تجد نفسها زوجة لرشيد، وهو كهل كبير السن، يصطحبها إلى كابُل رغم رفضها.

أما ليلى، فهى الطفلة التى كانت تعيش فى المنزل المقابل لمنزل مريم، والتى ارتبطت بعلاقة حب بواحد من الشباب الذين فقدوا إحدى أرجلهم فى واحدة من غارات الحرب المستعرة فى كابُل بين أمراء الحرب الذين تفرغوا لقتال بعضهم بعضاً، بعد أن نجحوا فى طرد الاتحاد السوفيتى.

تتشابك أحداث الفتاتين، فى قصة حزينة ومربكة للغاية، جعلتنى كقارئة ألهث وراء الأحداث وجعلت دموعى تنهمر كلما ألقت الحياة مصيبة جديدة فى طريق مريم وليلى.

تدور أحداث تلك الرواية فى الفترة الزمنية المضطربة التى سادت أفغانستان لمدة ثلاثين عامًا، خلال الانتقال من مرحلة الاحتلال السوفييتى إلى سيطرة طالبان، ومن ثم مرحلة ما بعد طالبان وإعادة إعمار البلاد.

ورددت الجبال الصدى:

لا يفوتنى هنا وقبل الانخراط فى الحديث عن آخر روايات الكاتب الجميل خالد حسينى، أن أرفع له القبعة وأشيد باختياره الموفق لعناوين رواياته، الحقيقة أن عناوينه تحمل مذاق التفرد والجمال فى آن واحد.

جاءت روايته الثالثة بعنوان «ورددت الجبال الصدى And the Mountains Echoed» فى عام ٢٠١٣، وتختلف تلك الرواية أيضا عن الروايتين السابقتين.

إذ يقدم قصته الجديدة فى صورة تسعة فصول، تتوزع البطولة فيهم على مجموعة من الشخصيات المختلفة، فيما يبدو وكأنه نوع من أنواع القصص القصيرة التى تصلح كل منها لتكون عملاً مستقلاً قائماً بذاته.

فى هذه الرواية، البطل الحقيقى هم الأطفال، لكونهم كما يقول الكاتب جزءاً لا يتجزأ من المجتمع الأفغانى المرهق من فرط القهر والاستبداد.

يستعرض برشاقة قصة «عبد الله» الذى يبلغ من العمر عشر سنوات، و»بارى» التى تصغره بسبع سنوات، شقيقان عانى أبوهما من الفقر لفترة طويلة، فعجز عن الإنفاق على أسرته الصغيرة، حتى اضطر فى نهاية المطاف لأن يبيع ابنته لزوجين عقيمين من أهل كابُل دون أن ترجف له عين، على الرغم من أن قلبه يدمى، هكذا انهارت الأسرة المسالمة تحت وطأة الفقر والجوع والمرض، ليكبر الشقيقان وقد اختارت الأقدار لكل منهما مصيراً مختلفا.

وقعت فى غرام البداية حيث يفتتح الكاتب روايته بقصة شعبية مُتخيلة، تقدم الرمزية التى تسير القصة الواقعية على خُطاها حتى النهاية، وهى قصة الفلاح «بابا أيوب» الذى يضحى بأحد أبنائه الصغار، فيهبه للغول، لما عجز عن مواجهته، ولكنه يندم بعدها، فيقرر أن يستنقذ ابنه من يد هذا الكائن المخيف، إلا أنه سرعان ما يعدل عن قراره عندما يجد أن ابنه يعيش فى سعادة وهناء.

يقول حسينى كلما سُئل عن رواياته:

((هذه قصصى، وهذا هو منظور شخص يعيش فى المنفى منذ عام ١٩٨٠، قال سلمان رشدى إن وجهة نظر الشخص فى المنفى عن وطنه دائماً ما تكون من خلال مرآة متصدعة، وهذا صحيح جداً بالنسبة لى. فلطالما كنت حريصاً جداً على التأكد من أن الناس لا يخطئون بينى وبين سفير أفغانى أو ممثل لأفغانستان، فأنا لم أعش هناك منذ وقت طويل)).

خالد الحسينى محارب شجاع وجراح ماهر، فتح جراحا عن وطن أصابه التطرف فى مقتل فوأد أحلام شبابه ومحى ذكريات أطفاله..فقدم بحق ما يستحق القراءة.