د. نصار عبدالله يكتب: وداعا يا قاسم
«إلى نصار عبدالله.. إلى نسمة من الزمن الجميل.. تهب علينا فى زمن ولاد القحبة» العبارة السابقة هى نص الإهداء الذى سطره قاسم عبده قاسم وهو يهدينى نسخة من واحد من أعماله الكثيرة التى تجاوزت الأربعين عملا ما بين مؤلف ومترجم والتى جعلت منه واحدا من أهم الأسماء الأكاديمية المتميزة على مستوى العالم العربى بأكمله فى مجال التأريخ للعصور الوسطى، وقد آثر أن يرحل وياللمصادفة التى قد لا تخلو من الدلالة، آثر أن يرحل فى الشهر الذى رحلت فيه الكثير من الرموز والأحلام العربية الكبرى ومن ثم فقد استحق الشهر الذى رحل فيه عن جدارة أن يطلق عليه الكثيرون: «أيلول الأسود»!!.. رحل قاسم فى ٢٦سبتمبر الماضى ٢٠٢١ قبل يومين من ذكرى رحيل جمال عبدالناصر الذى هو فى مصادفة غير سعيدة نفس ذكرى انفصال سوريا عن مصر!! فى أول إخفاق كارثى لتجربة وحدوية، كان الوحدويون العرب ومن بينهم قاسم عبده قاسم نفسه، يعقدون عليها أعظم الآمال!.. كما كان رحيل قاسم فى الوقت ذاته بعد عشرة أيام من ذكرى المجازر التى ارتكبها الجيش الأردنى ضد المقاومة الفلسطينية المسلحة والتى يقدر البعض ضحاياها بخمسة آلاف فلسطينى أى ما يفوق ما خسرته الجيوش العربية مجتمعة فى حرب ١٩٤٨!، وأيا ما كان المسئول الحقيقى عن تلك المجازر وهل هو التصرفات غير المسئولة لبعض الفصائل الفلسطينية والتى وصلت إلى حد اختطاف طائرات مدنية وتفجيرها فى مطار عمان؟.. أم أن السبب الحقيقى هو تقديم عرابين ولاء جديدة من الأسرة الهاشمية للعالم الغربى كما يذهب إلى ذلك بعض المحللين؟.. أيا ما كان المسئول الحقيقى وأيا ما كان العدد الحقيقى للضحايا.. فإن تلك المجازر كانت فى محصلتها النهائية كارثة عربية كبرى، وشرخا جديدا فى الحلم العربى الذى كان يراود قلوب العرب وهو أن تلتحم القوى العربية بدلا من أن تقتتل.. ولقد كان قاسم عبده قاسم واحدا من أصحاب هذا الحلم الذين لم يتخلوا عنه حتى وهو ينجز دراساته كرائد منهج جديد لتأريخ العصور الوسطى، فقد كان يؤرخ لتلك العصور فى سياقها الأوروبى، لكن وعيه كان مسلطا فى الوقت ذاته على الواقع العربى المعاصر، وكان يكتب عن الحروب الصليبية وهو منتبه إلى أن الحروب التى تشنها إسرائيل على العالم العربى هى تكرار للحروب التى كانت ترفع راية دينية، والتى لم يكتب لها النجاح إلا بفضل تضافر الظهير الغربى للصليبيين من ناحية وتفكك العالم العربى من ناحية أخرى، وعندما قدر للعرب أن ينتصروا انتصارا مبينا فى حطين وتحرير القدس عام ١١٨٧م فإن ذلك الانتصار لم يكن ليتحقق لولا وحدة مصر والشام تحت راية واحدة وزعامة واحدة، وفى المقابل فإن انفصال الشام عن مصر فى مراحل تاريخية لاحقة، أو اقتتال مكونات الشام نفسه بعضها مع البعض الآخر فى مراحل أخرى، لم يكن فى محصلته النهائية إلا إضعافا للمنطقة العربية ككل فى مواجهة الطامعين فيها.. وأعود إلى الدكتور قاسم الذى عرفته لأول مرة منذ ما يربو على أربعين عاما وتحديدا فى رحلة الصيف، فقد كنت منتميا إلى مجموعة من الأصدقاء الشباب (فى ذلك الوقت) اعتادت أن تقوم برحلتين فى كل عام: رحلة الصيف إلى مرسى مطروح ورحلة الشتاء إلى الغردقة وقد أوكلنا إلى واحد منا هو شوقى حبيب تدبير الشئون الإدارية لكل رحلة وتوفير مئونتها ولوازمها ثم تقسيم التكلفة على المشاركين، وفى رحلتنا إلى مرسى مطروح كنا نستقل القطار من القاهرة الذى كان يستغرق عشر ساعات أو أكثر للوصول إلى مرسى مطروح لكننا لم نكن نشعر بالوقت إذ إننا كنا نحول السفر من رحلة معاناة إلى حفلة سمر وغناء مبهجة متصلة.. كان قاسم ذا صوت جميل وهو يغنى: ياعينى يالاللى.. ياسيدى يالاللى ونرد عليه آه.. آه، وحينما نفرغ من الغناء نلعب عروستى وفى أغلب الحالات كان المشاركون يتوصلون إلى اسم العروسة فقد كان أغلبهم على درجة عالية من الذكاء والثقافة، بدليل أن عددا كبيرا منهم قد أصبحوا أساتذة مرموقين فى الجامعة: أحمد مرسى أصبح أستاذا للأدب الشعبى، وهدى زكريا أصبحت أستاذة للاجتماع، والصفصافى أصبح أستاذا للأدب التركى، والهوارى أصبح أستاذا للغةالعبرية وآدابها، وشوقى حبيب نفسه أصبح أستاذا فى المعهد العالى للفنون الشعبية.. وفى رحلة الصيف تلك توثقت صلتى بالدكتور قاسم وأصبحنا صديقين حميمين، وكلما سافرت من مقر إقامتى فى سوهاج إلى القاهرة كنت أحرص حرصا شديدا على أن تكون زيارتى للدكتور قاسم جزءا من برنامجى أيا ما كان السبب الذى دعانى إلى الزيارة، وحتى عندما تباعدت زياراتى إلى القاهرة وأصبحت مقتصرة على مرة واحدة فى العام لحضور معرض الكتاب، كنت أحرص على زيارة الدكتور قاسم فى منزله واصطحابه أحيانا إلى معرض الكتاب، لكننى كنت أعوض نقص الزيارات إلى القاهرة بالمهاتفات المتبادلة، فلم يكن يمضى أسبوع دون اتصال من جانبى أو من جانبه، وكثيرا ما كانت المكالمات تطول بحيث تصل إلى مساحة الوقت الذى يستغرقه لقاء طويل، حيث كنا ننتقل من الحديث عن الهموم الشخصية إلى الحديث عن الهموم العامة، وفى معظم الحالات كانت وجهة نظرنا متطابقة إلى الحد الذى يمكن معه القول: إن كلا منا كان يفضفض عن نفسه مع نفسه، لهذا السبب فأنا لا أبالغ حين أقول إنه برحيل قاسم فإن جزءا منى قد سبقنى إلى الرحيل.. وداعا يا قاسم.